جيران الهنا
جيران الهنا
هكذا أكلمت عاما من عمرى لاجئا في مدينة العبور. الأمور اختلفت بحق. وفي كل يوم كان يتأكد لي أن أكثر ما يميز بني البشر – المصريون منهم على وجه الخصوص- هو "التكيف". هذا مثلا مايجعلنا نتحمل الدراسة في المدارس والجامعات الحكومية "اللي تقطع الخلف.. الفكري طبعا!" لأكثر من 15 عاما ونحن في قمة البشر والسعادة. ويجعلنا راضين جدا بانتظار الأتوبيس الذي لايأتي أبدا والانحشار- واقفين- في الميكروباص المزدحم دوما. وبهزائم الزمالك المتكررة وبالفضائح المنظمة للرياضة في الأولمبياد وبرغيف العيش الذي يعاني من "الاسقربوط" وبساندوتيش الفول الذي أصبح بـ150 قرشا دون أن تعرف سببا لهذا.هو التكيف الذي يجعلنا نتحمل "رخاوة" "تامر حسني" و"جمودية"- والأصل جامدة!-"هيفاء وهبي" وثرثرة "صفوت الشريف" المتكررة وابتسامات "جمال مبارك" البلاستيكية وفوق هذا وذاك التكيف على بقاء شخص واحد فقط- لاغير- رئيسا لنا لما يزيد على ربع قرن وحتة!
وحتى لا يغضب رئيس مدينة العبور الذي لايعرفني ولا أعرفه ولم أقابله قط وإن أيقنت أنه رجل دأوب في عمله بعدما رأيت بعيني -التي لم تأكلها العثة بعد- صورة الرئيس مبارك منتشرة في كل شوارع المدينة! فبصدق العيشة في العبور لطيفة وبنت حلال ولا علاقة لها بكل الأمثلة "التكييفية" السابقة. فعلى الأقل نسبة التلوث أقل والشوارع أكثر تنظيما وأقل عشوائية والمباني ذات شكل عصري جذاب -وإن كان يخلو من الجمال وهو أمر معتاد في كل المدن الجديدة- بالإضافة إلى مساحات خضراء موزعة بعناية وصحراء في خلفية المشهد يذكرك امتدادها اللانهائي بالحقيقة الكونية المؤكدة "أنت لاشيء".المشكلة لم تكن عندي إذن ولم تكن كذلك في العبور وإنما - ياحبة عيني- كانت لدى "جيران الهنا" الذين شاء حظهم العثر أن أسكن في نفس المكان الذي يسكنون فيه!
فلظروف العمل والمسافات التي يجب علي أن أقطعها كل صباح حتى أصل في ميعادي - متأخرا!-. فإني اترك شقتي في السابعة والنصف صباحا تقريبا ولا أعود لها إلا في الحادية عشرة أو الثانية عشرة مساء إلى جانب يوم الاثنين- إكسلوكسيف- الذي أعود فيه في الثالثة من فجر اليوم التالي!
هكذا بدوت للجيران رجلا غامضا جدا. يرحل مبكرا ويأتي متأخرا ويغيب عن المشهد تماما يومي الجمعة والسبت- حينما أعود إلى وطني "شربين"-. الخيارات هنا محدودة إما هذا الرجل" اللي هو أنا!" يعمل في تجارة المخدرات أو تهريب السلاح مستخدما تلك السيارة العرجاء – 128 طبعا وما تكون؟!- للتغطية والتستر على أعماله غير القانونية ومش بعيد يكون مخبي العيون أو البي إم دبليو على أول العبور!
ولعل بعضهم بدأ يتصور أني أمارس طقوسا سحرية شيطانيا في الشقة. لأني في المرات القليلة التي تصادف فيها أني كنت أفتح باب الشقة للخروج أو الدخول منها فيراني أحد الجيران كان يرمي ناظريه إلى الداخل ليحاول أن يستشف من أثاث الشقة أو معالمها مايشير إلى ما الذي يفعله هذا الوغد- اللي هو أنا برضه!- وأكاد أتخيل مشاعر هؤلاء وهم ينظرون في الداخل فلايجدون أثاثا ولا ديالو! هذا أمر منطقى جدا بالنسبة لي لأني أحشد كل ما أحتاج في غرفة وحيدة إلى جوار الحمام! لأنه لا أهمية طبعا لأن أضع صالونا أو سفرة أو انتريه أو حتى مروحة سقف في شقة لا أمكث فيها سوى ساعات النوم فحسب!
لكن أحد- تأدبا أو خوفا- لم يسألني السؤال الصعب "هي الشقة فاضية كده ليه" ولعل بعضهم صار متيقنا من أني أجعل الشقة خاوية هكذا حتى نستطيع توزيع أجولة المخدرات في أكياس صغيرة على رواقة من أجل أن يوزعها الواد "بيسه" بعد ذلك على المقاهي ! أو حتى استطيع تنظيم حفلات "عبدة الشيطان" وسط حضور أكبر عدد ممكن من الأبالسه وأعوانهم من بني البشر!
هكذا راح "جيران الهنا" الذين يسكنون في الأعلى يتعاملون مع الشقة على أنها "مهجورة" فإذا فتحت البلكونة ذات يوم- وهو أمر نادر في العموم- وجدت كثير من التفاصيل.. مشابك الغسيل الخشبية وأغلفة الأيس كريم وبقايا اللب وفي أحيان بعض الملابس الـ"........." -انت فاهم طبعا!- ثم تطور الأمر إلى كورة "ميدو"- لابد أن ابنهم اسمه ميدو- لكن لما تكرر صعودي لهم- في أوقات متأخرة أو مبكرة جدا- وأنا أحمل حاجياتهم هذه مع ابتسامة بلهاء وعبارات تزيد الأمر غموضا "أنا جاركم اللي تحت.. ها ها.. دي حاجات كانت واقعة عندي في البلكونة.. لا أبدا ولايهمك.. وميدو كويس!" بدأ الأمر يختلف بعض الشيء واقتصر على المشابك الخشبية وهذا فلكور مصري أصيل أظنه يتكرر في كل أنحاء المحروسة.
لهذا لك أن تتخيل توتري وقلقي وفزعي لما فوجئت – بالأمس- بضربات متكررة على باب الشقة! يتمدد الخوف في داخلي كقطة شيرازي تسترخي ساعة عصاري وأنا اتساءل" من يعرف أني جئت مبكرا اليوم؟.. هل يكون الجيران فعلوها فعلا وبلغوا مباحث أمن الدولة؟ وهل تستأذن الشرطة قبل أن تقتحم البيوت؟" اتحرك في جنون بين أرجاء الشقة محاولا إزالة أي آثار للمخدرات وحفلات العربدة الشيطانية فلا أجد سوى التراب وبعض الصراصير التي ايقظها ضجيجي من سبات عميق! وأسارع لفتح باب الشقة وأنا أخفي خلف ظهري السكينة الكبيرة متوقعا أي هجوم مباغت.. ثم رأيتهم.
ثلاثة أطفال كانوا يبتسمون لي في وجل وكسوف واضحين. أنظر خلفهم لعل الشرطة دفعت بهم للتمويه فلا ألمح سوى الظلام. ابتسم بدوري قبل أن تتكلم كبيرتهم في خجل "عمو!"- آه والله قالت عمو.. اندهشت جدا لأني كنت أظن نفسي صغيرا للحد الذي يبعد عني أي صفة للعمومة!- ثم "إزيك"- هذه ليست من الأعداء بكل تأكيد- "إحنا بس كنا بنلم عشان زينة رمضان"- يتحرك الطفل في داخلي مسترجعا كيف كنت أعرف قدوم الشهر المبارك من الفوانيس المعلقة في الشارع وليس بطلة المفتي في التليفزيون- "رمضان؟ آه.. دي حاجة جميلة جدا.." " إحنا بنلم 2.5 جنيه ..بس عشان حضرتك مش موجود أصلا هناخد 2 جنيه بس!".
رددت في سرعة كائن فضائي يحاول أن يثبت للجميع أنه بشري :" لأ أنا موجود بس انت عارفة الشغل بقى وكده.. وعشان أثبت لك هأدفع 2.5 جنيه ".. أقلب في جيوبي.. جميل هذا جنيه ثم نصف فربع فربع..إحم!
- "طب معاكي فكة ميه جنيه.. أصل مش معايا فكة غير 2 جنيه بس!"
- مافيش مشاكل إحنا كده كده كنا عاوزين منك 2 جنيه بس.. كل سنة وأنت طيب!
- وأنت طيبة... أنا اسمي محمد على فكرة!
- ماشي!
ثم أغلق الباب في حرج شديد شاعرا- وأنا الرجل "الشحط"- بأن المفتش ضبطتي مستقلا القطار بنصف التذكرة المخصصة للأطفال. متسائلا في قرارة نفسي عن الطريقة التي سيتعامل معي بها "جيران الهنا" عندما يروني.. في رمضان القادم.