من نفسي

بكسر النون

الاسم:
الموقع: الدقهلية- القاهرة, Egypt

الأحد، أغسطس 24، 2008

جيران الهنا

جيران الهنا

هكذا أكلمت عاما من عمرى لاجئا في مدينة العبور. الأمور اختلفت بحق. وفي كل يوم كان يتأكد لي أن أكثر ما يميز بني البشر – المصريون منهم على وجه الخصوص- هو "التكيف". هذا مثلا مايجعلنا نتحمل الدراسة في المدارس والجامعات الحكومية "اللي تقطع الخلف.. الفكري طبعا!" لأكثر من 15 عاما ونحن في قمة البشر والسعادة. ويجعلنا راضين جدا بانتظار الأتوبيس الذي لايأتي أبدا والانحشار- واقفين- في الميكروباص المزدحم دوما. وبهزائم الزمالك المتكررة وبالفضائح المنظمة للرياضة في الأولمبياد وبرغيف العيش الذي يعاني من "الاسقربوط" وبساندوتيش الفول الذي أصبح بـ150 قرشا دون أن تعرف سببا لهذا.هو التكيف الذي يجعلنا نتحمل "رخاوة" "تامر حسني" و"جمودية"- والأصل جامدة!-"هيفاء وهبي" وثرثرة "صفوت الشريف" المتكررة وابتسامات "جمال مبارك" البلاستيكية وفوق هذا وذاك التكيف على بقاء شخص واحد فقط- لاغير- رئيسا لنا لما يزيد على ربع قرن وحتة!
وحتى لا يغضب رئيس مدينة العبور الذي لايعرفني ولا أعرفه ولم أقابله قط وإن أيقنت أنه رجل دأوب في عمله بعدما رأيت بعيني -التي لم تأكلها العثة بعد- صورة الرئيس مبارك منتشرة في كل شوارع المدينة! فبصدق العيشة في العبور لطيفة وبنت حلال ولا علاقة لها بكل الأمثلة "التكييفية" السابقة. فعلى الأقل نسبة التلوث أقل والشوارع أكثر تنظيما وأقل عشوائية والمباني ذات شكل عصري جذاب -وإن كان يخلو من الجمال وهو أمر معتاد في كل المدن الجديدة- بالإضافة إلى مساحات خضراء موزعة بعناية وصحراء في خلفية المشهد يذكرك امتدادها اللانهائي بالحقيقة الكونية المؤكدة "أنت لاشيء".المشكلة لم تكن عندي إذن ولم تكن كذلك في العبور وإنما - ياحبة عيني- كانت لدى "جيران الهنا" الذين شاء حظهم العثر أن أسكن في نفس المكان الذي يسكنون فيه!
فلظروف العمل والمسافات التي يجب علي أن أقطعها كل صباح حتى أصل في ميعادي - متأخرا!-. فإني اترك شقتي في السابعة والنصف صباحا تقريبا ولا أعود لها إلا في الحادية عشرة أو الثانية عشرة مساء إلى جانب يوم الاثنين- إكسلوكسيف- الذي أعود فيه في الثالثة من فجر اليوم التالي!
هكذا بدوت للجيران رجلا غامضا جدا. يرحل مبكرا ويأتي متأخرا ويغيب عن المشهد تماما يومي الجمعة والسبت- حينما أعود إلى وطني "شربين"-. الخيارات هنا محدودة إما هذا الرجل" اللي هو أنا!" يعمل في تجارة المخدرات أو تهريب السلاح مستخدما تلك السيارة العرجاء – 128 طبعا وما تكون؟!- للتغطية والتستر على أعماله غير القانونية ومش بعيد يكون مخبي العيون أو البي إم دبليو على أول العبور!
ولعل بعضهم بدأ يتصور أني أمارس طقوسا سحرية شيطانيا في الشقة. لأني في المرات القليلة التي تصادف فيها أني كنت أفتح باب الشقة للخروج أو الدخول منها فيراني أحد الجيران كان يرمي ناظريه إلى الداخل ليحاول أن يستشف من أثاث الشقة أو معالمها مايشير إلى ما الذي يفعله هذا الوغد- اللي هو أنا برضه!- وأكاد أتخيل مشاعر هؤلاء وهم ينظرون في الداخل فلايجدون أثاثا ولا ديالو! هذا أمر منطقى جدا بالنسبة لي لأني أحشد كل ما أحتاج في غرفة وحيدة إلى جوار الحمام! لأنه لا أهمية طبعا لأن أضع صالونا أو سفرة أو انتريه أو حتى مروحة سقف في شقة لا أمكث فيها سوى ساعات النوم فحسب!
لكن أحد- تأدبا أو خوفا- لم يسألني السؤال الصعب "هي الشقة فاضية كده ليه" ولعل بعضهم صار متيقنا من أني أجعل الشقة خاوية هكذا حتى نستطيع توزيع أجولة المخدرات في أكياس صغيرة على رواقة من أجل أن يوزعها الواد "بيسه" بعد ذلك على المقاهي ! أو حتى استطيع تنظيم حفلات "عبدة الشيطان" وسط حضور أكبر عدد ممكن من الأبالسه وأعوانهم من بني البشر!
هكذا راح "جيران الهنا" الذين يسكنون في الأعلى يتعاملون مع الشقة على أنها "مهجورة" فإذا فتحت البلكونة ذات يوم- وهو أمر نادر في العموم- وجدت كثير من التفاصيل.. مشابك الغسيل الخشبية وأغلفة الأيس كريم وبقايا اللب وفي أحيان بعض الملابس الـ"........." -انت فاهم طبعا!- ثم تطور الأمر إلى كورة "ميدو"- لابد أن ابنهم اسمه ميدو- لكن لما تكرر صعودي لهم- في أوقات متأخرة أو مبكرة جدا- وأنا أحمل حاجياتهم هذه مع ابتسامة بلهاء وعبارات تزيد الأمر غموضا "أنا جاركم اللي تحت.. ها ها.. دي حاجات كانت واقعة عندي في البلكونة.. لا أبدا ولايهمك.. وميدو كويس!" بدأ الأمر يختلف بعض الشيء واقتصر على المشابك الخشبية وهذا فلكور مصري أصيل أظنه يتكرر في كل أنحاء المحروسة.
لهذا لك أن تتخيل توتري وقلقي وفزعي لما فوجئت – بالأمس- بضربات متكررة على باب الشقة! يتمدد الخوف في داخلي كقطة شيرازي تسترخي ساعة عصاري وأنا اتساءل" من يعرف أني جئت مبكرا اليوم؟.. هل يكون الجيران فعلوها فعلا وبلغوا مباحث أمن الدولة؟ وهل تستأذن الشرطة قبل أن تقتحم البيوت؟" اتحرك في جنون بين أرجاء الشقة محاولا إزالة أي آثار للمخدرات وحفلات العربدة الشيطانية فلا أجد سوى التراب وبعض الصراصير التي ايقظها ضجيجي من سبات عميق! وأسارع لفتح باب الشقة وأنا أخفي خلف ظهري السكينة الكبيرة متوقعا أي هجوم مباغت.. ثم رأيتهم.
ثلاثة أطفال كانوا يبتسمون لي في وجل وكسوف واضحين. أنظر خلفهم لعل الشرطة دفعت بهم للتمويه فلا ألمح سوى الظلام. ابتسم بدوري قبل أن تتكلم كبيرتهم في خجل "عمو!"- آه والله قالت عمو.. اندهشت جدا لأني كنت أظن نفسي صغيرا للحد الذي يبعد عني أي صفة للعمومة!- ثم "إزيك"- هذه ليست من الأعداء بكل تأكيد- "إحنا بس كنا بنلم عشان زينة رمضان"- يتحرك الطفل في داخلي مسترجعا كيف كنت أعرف قدوم الشهر المبارك من الفوانيس المعلقة في الشارع وليس بطلة المفتي في التليفزيون- "رمضان؟ آه.. دي حاجة جميلة جدا.." " إحنا بنلم 2.5 جنيه ..بس عشان حضرتك مش موجود أصلا هناخد 2 جنيه بس!".
رددت في سرعة كائن فضائي يحاول أن يثبت للجميع أنه بشري :" لأ أنا موجود بس انت عارفة الشغل بقى وكده.. وعشان أثبت لك هأدفع 2.5 جنيه ".. أقلب في جيوبي.. جميل هذا جنيه ثم نصف فربع فربع..إحم!
- "طب معاكي فكة ميه جنيه.. أصل مش معايا فكة غير 2 جنيه بس!"
- مافيش مشاكل إحنا كده كده كنا عاوزين منك 2 جنيه بس.. كل سنة وأنت طيب!
- وأنت طيبة... أنا اسمي محمد على فكرة!
- ماشي!
ثم أغلق الباب في حرج شديد شاعرا- وأنا الرجل "الشحط"- بأن المفتش ضبطتي مستقلا القطار بنصف التذكرة المخصصة للأطفال. متسائلا في قرارة نفسي عن الطريقة التي سيتعامل معي بها "جيران الهنا" عندما يروني.. في رمضان القادم.

الأحد، أغسطس 17، 2008

تحت الطلب

تحت الطلب
قصة قصيرة

يبدو أن المشوار سيكون طويلا هذه المرة، المسافة من القاهرة لدمياط تقارب المائتي كيلو مترا، كما أنه لم يسلك هذا الطريق من قبل والذي سمع من بعض السائقين أنه ملئ بالمطبات التي تظهر فجأة دون أي إشارات أو علامات ، فقط كل ما يأمله أن تكون الإكرامية تتناسب مع هذا المشوار الطويل، يضع شريط القرآن في كاسيت السيارة القديم والذي يحتاج إلى "خبطه" بكف اليد ثلاث مرات متتالية حتى ينطق، ثم ينساب صوت الشيخ "محمود الحصري" عذبا رقراقا يقشعر الأبدان وهو يردد "كل نفس ذائقة الموت"، يعلم بحكم خبرته أنه لا بديل عن الحصري وعن هذه السورة تحديدا في مثل هذه المناسبات.
ينظر بطرف عينه اليمنى إلى زبون هذه المرة ورفيق رحلته، شيخ طيب كما يظهر من ملامحه التي تحددها نظارة طبية أنيقة وجلباب أبيض مكوي بعناية حتى أن حد الكم لايزال واضحا، بالإضافة إلى تلك الطاقية "الشبيكة" التي لا يعتبر أحدهم قد زار بيت الله الحرام إلا إذا عاد بها إلى أهله وأحبابه.
وقد انطلق بالسيارة البيجو التي اٌنتزعت عنها كراسيها الخلفية حتى يستوعب المكان "النعش" المغطي بأقمشة كٌتب عليها آيات قرآنية، يتنحنح قليلا ثم يسأل الشيخ العجوز:
"إحم.. وهو لا مؤاخذة.. المرحوم يبقى لحضرتك إيه"
ينظر إليه الرجل بعين تجمدت فيها الدموع قبل أن يقول باقتضاب في صوت مبحوح:
"أنا خاله.. "
ثم يصمت، فيشعر بحرج، ويهم أن يصمت بدوره إلا أن فضوله ينتصر عليه فيعاود التنحنح من جديد قبل أن يسأل رفيقه مرة أخرى:
"إحم.. وهو لا مؤاخذة.. اتوفي إزاي.."
يخرج الصوت متحشرجا هذه المرة:
"حادثة"
يعقب بـ"لا حول ولا قوة إلا بالله" ثم يقرر بأن يكمل أسئلته رغم الإجابات المبتورة، لا يعرف سببا واضحا لذلك، لكنه في كل مرة قام فيها بتوصيل "جثة" إلى مثواها الأخير، لم يكن يستطيع أن يمنع نفسه من الحديث مع أهل المتوفى الذين يصاحبونه في رحلته الأخيرة، لايزال يتذكر هذا اليوم الذي نقل فيها جثة طفل صغير -قتلته سيارة مسرعة في شارع صلاح سالم- إلى قريته في الجيزة، كانت السيارة يومها-رغم ضيق مساحتها- ممتلئة بالسيدات المتشحات بالسواد القاتم الكئيب وكاد صراخهن المتواصل أن يفقده تركيزه حتى أنه أفلت بأعجوبة من الاصطدام بأكثر من سيارة في الطريق، ومن كثرة تفكيره في البحث عن شيء يجعلهن يتوقفن عن ممارسة الصراخ كاد أن يسحب شريط الحصري من الكاسيت ويضع بدلا منه شريطا لـ"أم كلثوم"- ذلك الذي اعطاه له "حسونة" القهوجي وهو يقول له مبتهجا " أكيد هيعدل دماغك يا أسطى "خليل"- لعل هذا يسبب لهم صدمة تخرسهم، إلا أنه تراجع في اللحظات الأخيرة، وقرر أن يحادث عم الطفل المتوفى الذي كان يجلس بجواره لعل الحوار يعزله عن الصراخ، ومنذ أن نجح ذلك الأمر فعلا، لم يعد يستطيع منع نفسه من الثرثرة مع أهل "الجثة" الراقدة خلفه، خاصة بعد أن اكتشف أن الكلام يقلل من طول ومصاعب الطريق فعلا، وكأن الله منح الإنسان نعمة الكلام حتى يشاركه الآخرون في الهموم التي لا يستطيع أن يتحملها وحده.
يعاوده الشغف إلى معرفة أسباب موت الشاب الذي يحمل جثمانه إلى دمياط، ويتغلب على حرجه وهو يسأل الشيخ:
" عربية خبطته برضه وهو بيعدي الطريق.. أصله خلاص دي بقت أسهل موتة في مصر"
ينظر الشيخ إلى الأراضي الزراعية المتراصة على جانبي الطريق هو يقول في أسى:
"لأ.. غرق في النيل"
نيل؟ غريبة، وهل جاء الشاب من دمياط حيث يصب نهر النيل في البحر المتوسط ليغرق في نيل القاهرة؟ ثم كيف يحدث هذا و كورنيش النيل بامتداد القاهرة سوره مرتفع ومن المستحيل أن يسقط فيه أحدهم عفوا إلا إذا..
"إحم.. وهو لامؤاخذة كان راكب مركب ووقع.. و لا إحم.. ولامؤاخذة انتحر؟!"
ينظر إليه الشيخ وفي ملامحه مزيج من الاندهاش والغضب قبل أن يقول:
"ينتحر إيه بس استغفر الله العظيم.. ده كان في رحلة مع أصحابه وبعدين اتزحلق من المركب النهري"
يفرمل "خليل" بقوة حتى أن احتكاك إطارات السيارة بالإسفلت يصدر صوتا مخيفا، وهو يحاول أن يهدئ من سرعته قبل مطب صناعي ظهر فجأة في قلب الطريق، يتحرك النعش الساكن خلفهم حتى يصطدم بالكرسيين في عنف، يصرخ الشيخ:
"حاسب يا أخينا.. "
يعتذر " خليل" في سرعة متعللا بأنه أول مرة يرتاد هذا الطريق، ثم وقد تذكر شيئا تصدر منه رغما عنه ضحكة خافتة يبتلعها في سرعة فور أن يلمح تكشيرة الشيخ، قبل أن يسترجع ذلك اليوم الذي قصده فيه أصدقاءه- السوء طبعا- وطلبوا منه أن يأتي معهم حتى يجلب لهم كمية كبيرة من الخمر والحشيش من أحد أحياء القاهرة الفاطمية- لا يشرب هو مثل هذه الأشياء مكتفيا بالشيشة التي يعمرها بمعسل "القص"-، ولأن الوقت كانت متأخرا ولأن الطريق الذي كان سيمرون منه معروف بتواجد عدة أمكنة أمنية "رزلة" فيه لم يكن أمامهم سواه، ولم يكن هناك سوى النعش ليخبئوا فيه أشياءهم المحرمة، صحيح أن "خليل" أقسم لهم بأنه لن يضع الأقمشة المزدانة بآيات القرآن فوق النعش، وأنه كلفهم 10 جنيهات إضافية فوق أجرته لزوم الصابون والكولونيا خمس خمسات ليطهره بعد أن تدنس بالخمر والحشيش، إلا أن الأمر انطلى على ضابط الشرطة، ولم يفتشهم، بل وجعلهم يمرون سريعا من الكمين، ومن فرحته الممزوجة بتوتر شديد ضغط "خليل" يومها دواسة البنزين بقوة شديدة لم تمكنه من أن يتوقف مبكرا قبل المطب الموجود بعد الكمين مباشرة فتحرك النعش مثلما حدث الآن، واصطدم بكراسي المقدمة وكاد الغطاء العلوي ينكشف، ويومها أقسم له "صلاح" صاحبه أنه بال على نفسه فعلا لما اقترب منهم الضابط مرة ثانية بعد أن توقفوا بفعل المطب وسألهم عن أي ضرر لحق بهم أو بالجثة.
ينتهي "الحصري" من تلاوته، فيقلب الوجه الثاني من الشريط وهو يردد "لا إله إلا الله"، وقد أدرك أن عليه قضاء الطريق بمفرده بعد أن فشل في فك شفرة صمت الشيخ خال الجثة، يلمح فتاة تقف على جانب الطريق وهي تشير إليه ولم تفطن أنه "تحت الطلب" أي ينقل جثثا لا ركاب، والله لو كان بمفرده لأوصلها حيث شاءت لكن كيف يفعل ذلك والشيخ العجوز غير قادر على التواصل مع الناس بفعل صدمة موت قريبه الشاب، فكيف إذن يمكن أن يقنعه بحشر الفتاة بينهما، التي سترفض بكل تأكيد أن تجلس بجوار الجثة، تصدر منه ضحكة خافتة مرة ثانية فيخيل إليه أن الشيخ سيلقيه من السيارة، لكن كيف يمكن أن يمنع نفسه من الضحك وقد تذكر "مديحة" - لا يعرف إذا كان هذا هو اسمها الحقيقي أم لا- التي جاءته يوما وطلبت منه وهي باكية أن ترقد في النعش لمدة ساعة واحدة فقط حتى تجرب حياة الأموات لعل الوقت الذي ستقضيه في الظلام في هذا القبر المتحرك يكون عظة لها فتعود من طريق بيوت الليل وأوكاره الذي اتخذته لها موطنا وعملا، يومها رفض "خليل" أن يأخذ منها أجرة نظير استخدامها للصندوق، معتبرا أنه لو عادت عن الرزيلة فقد كسب فيها ثوابا كبيرا، إلا أنها- بنت المجنونة- لم تحتمل أن يغلق عليها غطاء النعش لثانية واحدة، بل صرخت بقوة ودفعت الغطاء عنها، ونزلت من السيارة مسرعة وهرولت إلى بعيد ولم يرها منذ هذا اليوم، ولم يعرف حتى وقتنا هذا إن كانت قد تابت أم نقلت نشاطها إلى مكان أخر لا يعرف عنه شيئا.
يلمح محطة بنزين على جانب الطريق، فيستأذن الشيخ العجوز في تموين السيارة، فيجيبه باقتضاب "..بس ياريت بسرعة عشان نلحق صلاة العصر"، وهو يضع الخرطوم في تانك البنزين، يتذكر عمله في محطة مماثلة منذ سنوات بعيدة، قبل أن يتعلم القيادة على يد الأسطى "محسن" السواق، هو نفسه الذي عرفه على الحاج "علي" صاحب المؤسسة الخيرية التي وفرت سيارة "تحت الطلب" هذه لنقل جثث الضحايا، كان في بداية الأمر يظن بأنه يقوم بهذه الأعمال لوجه الله، ثم اكتشف بعد ذلك أن الحاج "علي" يأخذ من أهالي المتوفى ما يزيد على المائتين جنيه ليس كأجرة نقل الجثة لا سمح الله وإنما كتبرع لنشاطات الجمعية، ومع ذلك لم يستطع أن يكره الحاج "علي" أو يترك العمل معه، خاصة بعد أن وثق فيه وجعل السيارة تحت أمرته طوال اليوم تقريبا بل وتركه يركنها اسفل منزله لعدة أيام متواصلة، وهو يدرك أنه قد يستخدمها في أغراض أخرى غير نقل الجثث.
وقد قاربوا على الوصول إلى دمياط اختفت الشمس خلف سحابة ضخمة، فأكتسى الطريق بلون رمادي مقبض زاده كآبة مرورهم على مقابر متراصة على جانب الطريق الأيمن، يندهش من أنه لم يزر قبر أمه وأبيه منذ سنوات طويلة، كيف له ألا يتذكرهما رغم أنه كل يوم تقريبا يرافق من سيذهب إليهم؟ يتذكر تندر أصدقاءه في جلسة المقهى الليلية وهم يسخرون من كون علاقته بالأموات أصبحت أكثر قوة من علاقته بالأحياء، في كل مرة كان يتفلسف عليهم ويقول لهم أنه يجد نفسه أكثر هدوءا مع الأموات فعلى الأقل لا تصدر عنهم أفعالا شريرة، لا يعرفون أنه حتى يومنا هذا لا يزال يرهب تلك اللحظة التي يخرجون فيها الجثمان من النعش، و أنه في أحيان كثيرة كان يخاف الصندوق الخاوي وهو عائد إلى منزله في المساء، إلا أنه في نفس الوقت لم يستطع أبدا أن يترك مهنته هذه وقد بدا فعلا أن مصيره قد ارتبط -إلى الأبد- بالذين رحلوا.
يستقبلهم صراخ أهالي الشاب وقد خرجوا للقائهم في أول الشارع، يهبط الشيخ من السيارة مسرعا وهو يوبخهم على ذلك، يفتح حقيبة السيارة في هدوء، ويستند إلى جدار المنزل، يهرول مجموعة من الرجال وهو يبسملون ويحوقلون ممسكين بالصندوق الذي يفتحونه على الفور ليحملوا جثمان الشاب ويضعونه في النعش الآخر الذي سينقلونه إلى المسجد للصلاة عليه، ينقده الشيخ "أربعون جنيها" شاكرا إياه، ينطلق بالسيارة وقد عاد إليها النعش فارغا، وقد أصبح على الطريق السريع، يشير إليه شخص يرتدي جلبابا ريفيا، يتوقف بجواره في هدوء، يلمح الرجل النعش في خلفية السيارة فيعتذر له متراجعا في سرعة، يناديه "خليل" قائلا في مرح:
اركب يا راجل.. الصندوق فاضي.. يعني لو عاوز المدام تيجي معانا ممكن برضه.
يضحك الرجل ثم يفتح باب السيارة ويجلس إلى جواره وهو يقول له:
المنصورة إن شاء الله.
يرد عليه "خليل" وهو يضع شريطا في كاسيت السيارة:
والمهزومة كمان..بس اوعى تكون رايح المقابر هناك.
يضحك الرجلان وصوت "أم كلثوم" قد بدأ في الغناء "حيرت قلبي معاك...".