من نفسي

بكسر النون

الاسم:
الموقع: الدقهلية- القاهرة, Egypt

السبت، أغسطس 11، 2007

أول ليالي العبور

أول ليالي العبور

في الشقة الجديدة الخاوية الباردة كان على أن أتكيف على هذه الحياة الجديدة التي تبعد عن صخب القاهرة المحبب نحو 25 كيلو كاملة ، وكان علي أن أتجاوز البشائر وأتعامل معها كأنها لم تحدث.. فلا أبالي بالانفجار الذي حدث في أحد المصانع بمدينة العبور قبل أن أصلها بعدة أيام ولا اهتم بمقتل ثلاثة أطفال في عمر الفراشات بعد أن غرقوا في بركة مياه جوفية موجودة في بعض مناطق المدينة وهو الحادث المفجع الذي وقع بعد أن استقريت في الشقة بأسبوع واحد فقط.. حتى أن موجة الحر الواردة للتو من جهنم والتي جعلت العبور- كسائر مدن مصر- والشقة- كسائر شقق مصر التي ياحرام بلا تكييف- أشبه بأتوبيس 35 بشرطة وقت الذروة.. عرق وخنقة وضيق نفس وخلق.. كان على أن اتعامل معها بدورها بوصفها اختبار أولي لمدى ارتباط الناس بالأرض الرابضون عليها.. حتى جاءني "ياسر" ذات يوم.
في إطار البحث عن مفردات للاستقرار في الشقة الجديدة أو الإيحاء بهذا تفتق الذهن عن ضرورة شراء "دش" - بكسر الدال وتسكين الشين-، خاصة وأن الشهور الطويلة التي قضيتها في القاهرة والتي تقفل السنوات الثلاث في أكتوبر القادم قضيتها مدحورا متلقيا أخبار المحروسة وناسها من على لسان تامر أمين وعمرو عبد السميع ومقدمي البرنامج الفلتة "الواحدة صباحا" وهو عذاب فظيع لا يعرف مقداره إلا من ذاقه.
وكان "ياسر" .. بجسده الضخم المترهل وعيونه الذكية ودماءه التي يجري فيها حب النادي الأهلي.. والعرض مغريا بصراحة.. ريسيفر يلتقط قنوات النايل سات زائد سلك 15 مترا وطبق 60 سم بالإضافة إلى تركيب كل هذا بثلاثمائة جنيها فقط.. يابلاش.. بينا ع الشقة.. بينا.
وهو يعمل يده بمهارة، قلت له محاولا تمضية الوقت والتعرف منه على تاريخ وجغرافية مدينة العبور الباسلة خاصة بعد أن عرفت أن له فيها ما يزيد على أربعة عشرة عاما متصلة :" والحياة هنا حلوة يا ياسر"، قال وهو يدب المفك في ظهر الطبق:" طبعا.. هادية ومافيش زحمة.. وكل حاجة هنا بس غالية شوية عن تحت".."إحم.. تحت فين؟".."مصر يعني.. أصل إحنا هنا بنقول على مصر تحت على اعتبار أن العبور مرتفعة شوية".." همم.. مش مشكلة الفلوس تغلى شوية..بس المهم الأمان.. أنا خدت بالي أن قسم الشرطة جنبي هنا.. نشط بقى وكويس".." هاهاها.. ضحكتني".. "آسف والله مش قصدي!".. "لا مافيش حاجة.. بس قسم إيه يا أستاذ.. ده ما بيتحركش إلا لما ييجي له الإذن من المديرية.. حتى لو الجريمة حصلت على بعد مترين منه".." إحم.. لهو فيه جرايم بتحصل هنا أصلا".. "أمال.. يعني مثلا مدير البنك اللي ساكن جنبنا رجع الفيلا بتاعته مرة فاكتشف أن كل حاجة فيها من أول التليفزيون لغاية إبر الخياطة موجودة على المدخل".."ودي طلعت إزاي دي"... "عادي.. الحرامي طلعها ..وكل يوم يعدي عليها ياخد شوية وييجي تاني يوم يكمل"!.." ياشيخ.. ده سرقة برواقة!".. "ولا البنت اللي اغتصبوها وقتلوها ورموها في الزبالة".. "ياه.. ده فين ده كمان".. "هنا في العبور!.. القسم ما اتحركش رغم أن الناس قدمت بلاغات ياما إلا بعد ما جاءت الإشارة من المديرية".. "بس أكيد الحاجات دي حصلت من زمان".. "آه يعني.. من أسبوعين كده!".. "همممم.. من زمان فعلا!"..ثم وقد لمحته قد انتهى من تركيب الطبق سألته "هيه.. هتحطه في البلكونة ولا في السطح".." والله أنت ساكن في التاني ولو اتحط في البلكونة ممكن حد يجيب سلم يطلع عليه يسرقه.. ولو اتحط ع السطح..وكان من غير باب ممكن أي حد ياخده وينزل!".. "طب هايل .. احطه في الحمام بقى ولا السيفون موصل على شبكة ممرات عاملاها عصابة القناع الأسود!".. "لأ خلاص خليه في البلكونة.. وابقى خلي بالك لو الصورة اتهزت في أي وقت..يبقى فيه حد بيسرق الطبق!".. شكرته على النصيحة الغالية وأنا أتساءل عن الحال إذن لو قرر أحدهم سرقته وأنا مغلق التليفزيون، قبل أن اسأله عن طريق مختصر يوصلني إلى القاهرة في وقت أسرع من طريق الإسماعيلية الصحراوي فرد مبتهجا "طبعا فيه.. الطريق اللي واصل بين العبور ومدينة السلام.. هيختصر عليك كتير.. بس امشي عليه الصبح بس.. لأنه بالليل بيكون خطر ومليان بلطجية وضريبة مخدرات.. دول مرة ثبتوا ظابط شرطة نسي وعدى الطريق بالليل من غير ما ياخد المسدس بتاعه!" .. ثم وقد ظهرت الجزيرة وأخواتها على شاشة التليفزيون قال لي ياسر في سعادة "تمام كده خلاص الدش زي الفل.. نورت العبور ياباشا أي خدمة تانية".. وأنا أوصله حتى باب الشقة الذي أغلقته خلفه بالمفتاح والترباس قلت له "تشكر يا عسل.. بس والنبي اسأل لي الشقة دي لو بعتها تجيب كام.. آه.. ومعاها الدش كمان!"