من نفسي

بكسر النون

الاسم:
الموقع: الدقهلية- القاهرة, Egypt

السبت، فبراير 16، 2008

عمليات خاصة.. شرقية

عمليات خاصة.. شرقية


في ليلة شتوية كهذه، لا تتجاوز أحلامك الكبرى أكثر من "طبق شوربة" وبطانية "ساراتوجا" و"ريموت كنترول" تقلب به محطات التليفزيون الذي تضبطه على الإغلاق بعد نصف ساعة، وكلما اقتربت من منزلك كلما تراءت لك هذه الأحلام متجسدة، حتى أنك ربما تتنسم رحيق بخار الشوربة الدافئ وتلعب بيدك في الهواء وكأنك تقلب في الريموت، وعندما لم يعد باقيا على كل هذا سوى عشر دقائق فقط، حدث التالي.
تبدأ السيارة – الـ 128طبعا أزعل لو نسيت!- في "الكح"!، الجو برد فعلا لكن هل تحور انفلونزا الطيور فعلا وأنتقل من الدجاج والبط إلى السيارات الـ128 تحديدا؟ تكح السيارة في انفعال شديد "كح كح كح"، ثم ينقلب الأمر فجأة إلى "رجرجة" و"تحشرجات" حتى حسبت أني داخل زجاجة دواء يرجها أحدهم في قوة، ثم تبدأ الانفجارات في الظهور من الخلف "طخ.. بوم طخ طخ بوم!" في صوت شديد الإزعاج جعلني أتصور أني أصبحت هدفا لفيلق من المارينز الأمريكي الذي ضل طريقه إلى العراق فجاء ها هنا إلى صحراء العبور!، أميل بالسيارة في سرعة إلى جانب الطريق، وأهبط وأنا أحمي وجهي بيدي خوفا من أي طلقات قد تنطلق من أسلحة القناصة، أفحص السيارة بنظرة عين سريعة، فأجد كل الأشياء سليمة، أعود للجلوس بداخلها من جديد وأتحرك في بطء، تتكرر الحشرجات والكحة والانفجارات وكأنها تعاني من انتفاخات هضمية مريعة ، قبل أن تعلن السيارة استسلامها فجأة وتتوقف على حدود مدينة العبور الباسلة!
مرتادو طريق القاهرة – الإسماعيلية الصحراوي يعرفون كيف تكون طبيعته عندما يدخل الليل، إذ يتحول إلى أرض خصبة لكل أفلام الرعب وما وراء الطبيعة، فمابالك حضرتك إذا كنا الآن في الحادية عشر مساء؟ أبحث عن أي كلب ضال للمساعدة، فلا أسمع أي "هو هوه"، قبل أن تحدث المعجزة عندما أرى أمامي سيارة نقل بمقطورة تقف على بعد أمتار قليلة، عندما اقترب منها أكثر وأكثر أمنع نفسي بصعوبة من تقبيل رمال الصحراء ومن نزول دموع الفرحة، السيارة تحمل أرقام "نقل الدقهلية"، بل والأجمل، أرقامها الأولى تكشف أن أصحابها من "شربين" تحديدا، يا فرج الله.. أقطع عليهم ما كانوا يفعلونه- تقريبا كان بيسلموا صفقة مخدرات!- وبعد سلام متشكك انقلب إلى ترحاب بعدما اتضح أننا ننتمي إلى وطن واحد يبعد عن العبور نحو 180 كيلو مترا كاملة، يبادر أحدهم بفحص سيارتي المسكينة بعدما شرحت له أعراض الأنفلونزا التي أصابتها بانتفاخات!، وكأي ميكانيكي محترف يبدأ في فك ما يعرف باسم "العمة" في ماكينة السيارة، صحيح أن معلوماتي عن ميكانيكا السيارات لا تختلف كثيرا عن معلومات أي مسئول في مصر عن حال الشعب، إلا أني كنت متأكدا من أن ما يفعله "بلدياتي" لا علاقة له مطلقا بموطن الوجع في السيارة، الأمر أشبه بأن تشكو لطبيب عظام ألما في قدميك، فيبدأ في فحص أنفك!
وطبعا كانت النتيجة الممزوجة بيأس "هنزق"، فيزقوا، وتكركر السيارة طويلا، وتطلق حشرجة شبيهة بحشرجة خرتيت يحتضر، قبل أن يدور المحرك في بطء، فأسمع بلدياتي يصرخون "روح .. وأوعى تقف"، سمعت أنا الجملة ووعيتها جيدا لكن من قال أن سيارتي سمعت ووعت مثلي؟
من زار مدينة العبور ذات مرة ، يعرف أنها مقامة على مرتفعات ومنخفضات، ولهذا فإن الطرق الموصلة إلي أحيائها تأخذ نفس الشكل، مرتفعات ومنخفضات، كنت أدعو الله أن تكمل السيارة جميلها وتصل بي حتى المنزل، حتى اكتشفت أني لم أكن متوضئا فيما يبدو، توقفت السيارة ثانية بعد فاصل متصل من الكح و الانفجارات الخلفية، لكنها كانت أصيلة وتوقفت أعلى مرتفع، وهكذا كان الأمر بسيطا هذه المرة، سأدفعها وأنا خارجها مستفيدا من قوة انحدارها، الأمر لم يكن سهلا طبعا، لكني فعلتها- أنا شاطر!- ودارت السيارة الجدعة ثانية، وأنا أبسمل وأحوقل وأدعو الله بكل ما أعرف من أدعية-اكتشفت أنها قليلة جدا بالمناسبة- أن تكمل مسيرتها حتى المنزل الذي لم يعد يبعد سوى خمسة كيلو مترات فقط، لكنها توقفت ثانية.. وهذه المرة ونحن نصعد إلى أعلى مرتفع!
هذه "قفلة دومينو"، حتى لو كنت أمتلك قوة "هرقل" لا يمكن أن أدفع السيارة إلى أعلى طريق زاوية ارتفاعه مابين 30 إلى 40 درجة، طب نجرب أن ندفعها إلى أسفل، وأكرر ذات التجربة السابقة بركوبها وإدارتها لكن وهي تنحدر بالعكس، وجدت هذا حل لطيف فعلا لكن لأن أجد نفسي تحت عجلات السيارة!، "مابدهاش"، فلنجرب أن نشير للسيارات التي تمر بجواري مسرعة- كلهم مروحين يشربوا شوربة!- لعلي أجد لدى بعضها حلا، أرفع يدي في استحياء وألوح للسيارات في بطء ويأس وقلة حيلة وشبه يقين بأن أحد لن يتوقف في هذا الوقت خوفا من أن يكون هذا الذي يلوح لهم ليس سوى مصاص دماء متخفي في صورة 128!، المفاجأة كانت في أن أول سيارة توقفت بعد 30 ثانية فقط، نيسان صني "ملاكي القاهرة" يقودها رجل محترم بلحية خفيفة يسألني في اهتمام عن أي مساعدة، فأرتج علي، لأني فعلا لم أكن أعرف بماذا يساعدني الناس؟! قلت كلاما عبيطا من نوعية "العربية.. واقفة.. زقة.. حبل" فأعتذر في أسف واضح لأنه لا يمتلك حبلا، ثم رحل، تشجعت هذه المرة وأنا ألوح بيدي ثانية لتتوقف هذه المرة شيفرولية نصف نقل "جيزة"، اقترب من صاحبها في سرعة، لأشرح له الموقف بنفس البلاهة "هممم.. مفمفم.. جرني والنبي!"، فيبادرني بالسؤال عن حبل مبديا استعداده للجر فعلا، وطبعا لم أكن أمتلك حبلا في السيارة ليه.. هأغسل الهدوم وأنشرها في العربية يعني!
أقف مستندا على السيارة في يأس، وأنا أنظر للسماء، منتظر الحل والمدد من فوق، قبل أن تتوقف إلى جواري سيارة دايو نوبيرا "ملاكي شرقية"، يهبط منها شاب ذو جسد ضخم ذكرني فورا بالممثل البشع "تامر هجرس" في فيلم "عمليات خاصة"، لكن الشاب الشرقاوي هذا كان ذا ملامح طيبة للغاية وروح ودودة ونفس مفطورة على الخير، مما شجعني أن أطلب منه "المهمة المستحيلة".. دفع السيارة إلى أعلى عكس المنحدر!
رحب الرجل جدا، واتخذ وضع "زق العربية" الشهير، هو من الخلف وأنا من الجانب الأيسر، وبدأنا المعركة.. لم نتحرك سوى لمسافة محدودة قبل أن افتح فمي على آخره طالبا الهواء والتنفس، أنظر إليه في أسى مشفقا عليه مما يحدث خاصة أن الحمل الأكبر في الدفع يقع عليه، فأجده منتعشا كأنه خارج لتوه من "شاور"!، ونحن نستريح- بناء على طلبي طبعا- أساله عن مهنته "ضابط في العمليات الخاصة!"،"إحم.. أهلا وسهلا.. وهي العمليات الخاصة دي تبع إدارة إيه في الشرطة؟" ، "الأمن المركزي يا باشا!"،" مش كده والنبي!.. أهلا بيك.. أنا صحفي"، يشد على يدي في قوة مرحبا في صدق، لكني مع ذلك لم أقل له إني أعمل في الدستور!، نسمي الله من جديد، ثم نبدأ الرحلة التي ذكرتني بعقاب الآلهة في الأساطير الإغريقية، يأتيه تليفون، فيرد عليه بيد وهو يدفع السيارة بيده الأخرى!، قائلا في همس "مش هـتأخر عليكي.. بأزق عربية عطلانة وجاي علطول"، أعرف منه بعد ذلك أنه عائد إلى الزقازيق في إجازة يومين، أشعر بتأنيب ضمير شديد لأني اقتطع من إجازته كل هذا الوقت فأطلب منه الرحيل، لكنه يرفض في عند صعيدي وكرم شرقاوي أصيل مرددا "مش ممكن ياباشا مش سايبك إلا لما تتحرك"، ونحن في أعلى نقطة من الطريق المرتفع انهارت قواي، وبات المسكين يدفع السيارة من الخلف بمفرده تقريبا!، أخيرا وصلنا إلى أعلى نقطة في المرتفع، وأصبح بالإمكان دفع السيارة إلى أسفل، بعد عدة محاولات دارت أخيرا وأنا بداخلها قبل أن أحاول إيقافها لشكره على هذا المجهود الجبار، لكني لمحته يشير لي في المرآة أن أذهب ولسان حاله يقول "مش وقته يابويا!"، تترنح السيارة في بطء، ثم يجاورني هو بسيارته حتى يطمئن على فأشكره بكلاكس يحمل كل معاني الامتنان والمحبة والمودة والاعتذار، ينطلق هو بسيارته ولم يكد يغيب عن نظري حتى أطلقت السيارة كحتها الأخيرة وقطعت النفس من جديد!
هذه المرة الأمر لم يكن سيئا جدا، كنت على مدخل الحي الأول في العبور، لكن المنزل لا يزال يبعد مسيرة لا بأس بها، ولأني كنت قد استهلكت من "الزق" الإغريقي، فلم أكد أدفع السيارة للأمام متصورا أني سأنجح في ذلك حتى المنزل، حتى وجدتها تعود إلى الخلف!، من جديد أقف مستندا إليها ملوحا للسيارات وقد استقريت أنه لا حل في هذه الليلة الطويلة كنخلة، السوداء كالبلح المستوي، سوى أن يجرني أحد، دقائق وتوقفت سيارة "نقل شرقية"- شرقية مرة أخرى.. يا كل حبي لك يا أحمد يا عرابي.. سلامات يا عبد الحليم حافظ.. طيبون يا مروة جمعة.. تكرم يا محمد يا شواف!- كان سائقها ودودا كشيمة أهل الشرقية، تحرك في سرعة بعدما أخرج حبلا مجهزا بخطافين في طرفيه وكأنه معد للجر أساسا، يمشي ببطء وأنا أسير مجرورا خلفه سعيدا بأن الساعة قد اقتربت من الثانية صباحا حتى لايراني أنا أو السيارة أحد من جيراني ونحن في هذا الوضع الأشبه بالأسرى المكبلين بالحبال، أنا مش المهم، لكن نفسية العربية مهمة برضه!، وبعدما وصلنا إلى المنزل، وضعت يدي في جيبي حتى أخرج لهذا السائق المجدع نقودا، فوجدته يبتعد عني في سرعة وكأني سأخرج له "حنشا" من البنطلون، قائلا في تعفف "فلوس إيه يا أستاذ.. دعوة حلوة بس"، ثم رحل تاركا إياي متسائلا عن سر كل الناس الحلوة دي التي تسكن في الشرقية، وعن بركة دعاء أمي الذي وفر لي كل هؤلاء الملائكة في هذا الوقت المتأخر.
في اليوم التالي سأعرف أن السبب فيما حدث، هو أن بطارية السيارة لم يعد فيها طاقة كافية لتشغيل عروسة صينية رديئة الصنع تقول "بابا وماما"، وفي اليوم التالي أيضا سأحقق أمنيتي الغالية وسأعانق طبق الشوربة وسألتحف بالبطانية الساراتوجا وسيغلق التليفزيون تلقائيا بعد نصف ساعة... ياكريم يارب.