من نفسي

بكسر النون

الاسم:
الموقع: الدقهلية- القاهرة, Egypt

السبت، أبريل 07، 2007

القاهرة.. الفيل أبو زلومة.. حسين دي إتش إل

القاهرة.. الفيل أبو زلومة.. حسين دي إتش إل

كان السؤال صعبا بالفعل..كيف تقضي يوما سعيدا في القاهرة وأنت بالأساس لست قاهريا ويجب أن تظهر أمام ضيوفك كواحد من حرافيش نجيب محفوظ يعرف دهاليز الحواري والشوارع؟!
الجزء السهل في الموضوع أن الضيوف هم أخي "باسم"وزوجته" رشا" والعسولة "حلا" التي كبرت الآن وصار عمرها الآن سبعة أشهر وكام يوم فكة كده.. وهو ماكان يعني أن الغلطة ممكن تعدي على اعتبار أنه لا أخي العزيز ولا زوجته الجميلة يمكن أن يتسببا لي في إحراج بالغ فيما بقي الخوف من "حلا" المعروفة بكونها حادة المزاج واللي مش بيعجبها بتديه بالقلم علطول!
ولما قابلت هذا الثلاثي المرح في محطة مصر -وقد سعدت جدا بأن الباركينج أمام المحطة لا يزيد عن جنيه واحد في الساعة!- كنت فعلا بلا أي خطة محددة سوى أننا نريد أن نقضي لنا يوم لذيذ قبل العودة في آخر اليوم إلى شربين فرحين مهللين مزأططين.. "هيه ياشباب..تحبوا تروحوا فين؟".. اسمع صوت الهمهمة المستنكرة وألمح كف "حلا" وقد اتخذ وضع الهجوم نحو قفايا فأبادر بالقول "ماتخافوش عامل لكم بروجرام..حافل.. يالا بسم الله.. حد فيكم شاف الأسد العو أو الفيل أبو زلومة..مافيش؟ طب بينا على حديقة الحيوان.. جايلك ياسيد قشطة!".


***

"واضح أن مصر كلها جاية تشوف الفيل معانا!"
كان هذا أول رد فعل لأخي العزيز "باسم" لما رأى كمية أتوبيسات يصعب حصرها تقف بالقرب من الحديقة وبجوار السور وفوق الرصيف وتحت الأرض!..أتوبيسات تحمل أرقاما من الدقهلية –قرابينا- وبني سويف والفيوم والمنوفية والقليوبية وغيرهم من محافظات مصر المحروسة.. لدرجة أني بحثت باهتمام عن أتوبيس رحلات توشكى لكن يبدو أنه كان قد غادر المكان قبل وصولنا إليه!
بعزم وتصميم وأنا أراقب الأفواج المتزاحمة على البوابة الضيقة للحديقة أقول "هأندخل يعني هأندخل.. اليوم لازم يبدأ بالفيل.. كتاب الرحلات المفيدة بيقول كده!"
وبعد أن تعاركنا مع عدد مأهول من طلاب المدارس اللطاف جدا للدرجة التي تجعلك تتمنى أن يكون لديك قنبلة ذرية لتفجرها فيهم وفي أهاليهم..نصل إلى البوابة وألوح بالتذاكر للمسئول الذي يجبيني في عجالة "لأ التذاكر من البوابة التانية!".. ولما لمح أني على بوادر أزمة قلبية قال في تأفف "طب بسرعة بسرعة عدو ياله!".. فنعدي وقد تحولت أجسادنا إلى المادة الخام للعرق واللزوجة.. نتشمم الهواء النقي- بحق- في فرحة وكأننا أنبوبة بوتجاز نزعت عنها الجلدة.. ثم نبدأ الجولة..

***

أكثر ما يلفت نظرك في حديقة الحيوان هو أن كثير من المصريين أصبح أكثر سادية من نيرون وجنكيز خان والحجاج بن يوسف الثقفي!
السادية هنا لا تتوقف عند مرحلة مشاكسة أو معاكسة الحيوانات وهو السلوك الذي يبدو وكأنه هدف رئيسي من الرحلة إلى حديقة الحيوان أصلا!، فبعيني هذه رأيت شابة كبيرة وعاقلة تمسك بعود الخس وتقربه من فم النعامة ثم بتعد عنها في سرعة فور أن تفتح الأخيرة فاها، ثم تكرر الأمر أكثر من مرة في تلذذ غريب والنعامة المسكينة لاتملك من أمرها شيئا، لكن السادية تتعدى ذلك المشهد لتصل إلى حد الاستمتاع بكون المكان الذي أنت فيه "غير نظيف".. فإذا كان من الممكن أن تبتلع فكرة أن تأكل بداخل الحديقة- أكلات خفيفة يعني مش محشي وسمك مشوي!- فلا يمكن أن تهضم فكرة أن تترك بقايا الطعام في المكان وترحل تاركا وراءك أكوام من الزبالة لا تسر الناظرين.
والغريب أن هذا يعد سلوك شبه جماعي لمعظم زوار الحديقة التي رغم هذا تستحق الزيارة بالفعل لأن بها مناظر لطيفة وأشجار نادرة وحيوانات دمها خفيف بحق مثل ذلك القرد الأمريكي الجنوبي- نسيت أسمه العلمي للأسف- والذي اعتقد بأن دارون قد تعرف عليه شخصيا قبل أن يطلق نظريته عن النشوء والارتقاء، فهذا القرد الجهنمي يقف على قدمين فقط ويمد يده ليسلم عليك مثل "زيزو" صاحبك، ولما تناوله عود الخس- الغذاء الرسمي تقريبا لكل الحيوانات في الحديقة بما فيهم الأسد!- فأنه ياخذه منك قبل أن يقطعه إلى قطع صغيرة بكلتا يديه ثم يأكلها بطريقة شبه بشرية تؤكدها ملامح وجهه الذي لو كنت واسع الخيال قليلا لتأكدت أنه- أي وجهه- يشبه ملامح صديقك زيزو برضه!
وبعد أن شاهدنا الضباع والفيل أبو زلومة والأسود التي بدا عليها هم الدنيا كلها وهي تنظر إلى جموع البشر المتطفلين، مررنا على عدة أقفاص يفترض أن بها الذئاب والثعالب والقطط! فوجئنا بأن كل الأقفاص خاوية ، ولما سألت الحارس تطوع مشكورا بأن يرينا الأقفاص من الخلف وفيها الحيوانات بعد أن دفعنا له جنيهين!، كانت القطة أمورة فعلا بفرائها الأبيض الناعم ولمحنا بجوارها طبق ألمونيوم غير نظيف به قليل من اللبن قال لي أخي ضاحكا" تلاقيه لبن بودرة" ولما خرجنا من المكان لمحنا- بالفعل- على جانب السور علبة لبن بودرة ميدو!-مش نيدو حتى!-
ولما قررنا أنه حان وقت الأفاعي، دفعنا جنيها إضافيا ودخلنا "بيت الزواحف" الذي علقت على مدخله لافتة تخرق عين الشمس "حرصا على سلامتكم لا داعي للطرق على الزجاج"، وطبعا كان هذا سببا كافيا لأن يطرق الزائرون على زجاج الفاترينات الذي توجد خلفه أنواع الثعابين المختلفة!، وبعيدا عن أني لمحت أحد الفاترينات مشروخة الزجاج وخلفها يكمن ثعبان من النوع السام!، ومن أني لاحظت أحد الحراس وقد ترك الباب الخلفي لفاترينة مفتوحا على آخره ثم ذهب هو في سبات عميق- لكن الحمد لله الثعبان المرة دي كان "أبو السيور الغيطي"..غير سام!-، فقد لفت نظري أن أغلب الثعابين السامة المصرية "مثل الطريشة والكوبرا" لا تتواجد إلا في الصعيد!..غلبان والله الصعيد ده مهمل من النظام الحاكم وكأنه أرض غير مصرية ولا نعرف عنه نحن- أبناء بحري والقاهرة- سوى النكت السخيفة العنصرية، و تستوطن فيه الثعابين السامة أيضا.
ولما تدشدشت أقدامنا من السير، صاح أخي باسم" خلاص هأعزمكم على الشاي في جزيرة الشاي" ثم طفق يوضح لزوجته كيف أن هذا المكان رومانسيا وأن كمال الشناوي وفاتن حمامة صورا فيه العديد من المشاهد "الأبيض والأسود"، وذهبنا.. المكان جميل فعلا.. بحيرة صغيرة يتحرك فيها البجع وتحيطه الأشجار والزهور الملونة، وكراسي وترابيزات قديمة بعض الشيء لكنها توفي بالغرض.. وجرسون خفيف الظل ثقيل الوزن...والشاي هناك "كومبليت" معاه قطعتين جاتوه.. والحساب- دي مفاجاة بقى- 50 جنيها!

***

كنت أهدئ من روع أخي بعد صدمة الخمسين جنيه في ثلاث أكواب من الشاي وست قطع جاتوه، موضحا له بأن هناك زجاجة مياه معدنية داخلة في الحساب!، وكنا لم نزل بعد أمام بوابة الرئيسية لجامعة القاهرة عندما توقفت السيارة فجأة!..أديرها أكثر من مرة لا فائدة.. أهبط منها ويقودها أخي وأزق.. ولا الهوا.. نركن على جنب.. وأفتح الكبود وأنظر بداخله ولا أنا فاهم أي حاجة.."طب وبعدين..اليوم كده هيبوظ".. أتامل المكان الذي نحن فيه.."هنجيب ميكانيكي منين طيب.. من كلية زراعة ولا من كلية آداب!".. و بدون أي إنذار يظهر هو من اللامكان ثم يميل على السيارة وهو يتساءل "خير إيه اللي حصل؟!"، ننظر أنا وأخي لبعضنا البعض دون فهم، ثم نتكلم وكأننا نقوم بتمثيل أدوارنا في فيلم سينمائي مكتوب بحرفية "وقفت لوحدها فجأة".. "همم..طيب.. " يخرج أدواته من حقيبته المتهالكة المتسخة المكتوب عليها "دي إتش إل"..يهبط أسفل السيارة.. يخرج خرطوما.. ينفخ فيه "العربية مش واصل لها بنزين"..ثم يمين في شمال ..فوق.. تحت.."أه فلتر البنزين محتاج يتغير"..وقبل حتى أن أقول أنا أو أخي "هنجيبه منين"..يميل على حقيبته الـ"دي إتش إل"..ويخرج فلترا جديدا يركبه في مكانه ثم "دور كده"...فأدور كده..فتدور السيارة وتسرى فيها الحياة من جديد!
يسأله "باسم" في اندهاش:" هو أنت بتمشي كده علطول ولا إيه."!..يبتسم ثم يقول "أبدا كنت بأصلح عربية عند الجامعة 128 برضه..لمحتكم قلت أجي أشوف واقفين ليه".."طب والفلتر".. "عادي أصلي بأحب أشيل معايا في الشنطة حاجات احتياطي ..عموما لو احتجتم حاجة بعد كده اسألوا بس بعد كوبري المنيب عن الأسطى حسين الميكانيكي..ماشي"!

***

ونحن في أعلى نقطة ببرج القاهرة كنت أتأمل تصاريف الله التي دفعت لنا بالأسطى "حسين دي إتش إل" في هذه اللحظة بالذات التي تعطلت فيها السيارة، أنظر لـ"حلا" الذي يتطاير شعرها القليل بفعل الهواء الشديد وأردد "بركتك يا حلا الظاهر".. نتابع القاهرة من أعلى نقطة فيها تقريبا- عرفت من اللوحة الإرشادية في المدخل أن برج الجزيرة أعلى من الهرم بخمسين مترا- فتبدو أكثر جمالا وقبحا في ذات الوقت.. ألمح القلعة واضحة من بعيد وبجوارها جبل المقطم.. بالأسفل نرى المساحات الخضراء المميزة لحي الجزيرة الراقي.. تبدو السيارات والبشر والمباني أصغر بكثير.. فيتمنى المرء أن تكون خطاياه وذنوبه في مثل هذا الحجم.. نحاول أن نرى الأهرامات فنفشل بفعل التراب الذي يغطي معظم الجيزة تقريبا.. يبدو الهواء منعشا نقيا وكأنه هو الآخر أصبح محجوزا للناس الذين يسكنون الأدوار العليا فحسب.. صورتين أو ثلاثة..كليك..كليك.. تتجمد اللحظة الحلوة على شريط الفيلم.. جميل أن يستطيع المرء استعادة الدقائق الجميلة الطيبة التي قضاها في حياته.. والأجمل أن وهج الفرحة يظل باقيا في الصور الفوتوغرافية حتى لو مضى عليها عشرات السنين.

***

بعد محاولة فاشلة للغذاء في ساقية الصاوي "فتحي سلامة كان ينظم حفلا فأغلقوا المطعم!"، وصلاة المغرب والعشاء في جامع جميل جدا نسيت اسمه في الزمالك، وفسحة سريعة في شوارع مصر الجديدة، وأكلة لذيذة في مطعم كباب نصف شعبي نصف راقي، كنا قد اقتربنا من شربين عندما هلكت طاقة باسم ورشا فذهبوا في تعسيلة صغيرة في حين بقيت حلا متيقظة فرحة، سألتها "مبسوطة من الرحلة"، فتبرطم بكلام موحي جدا من نوعية "ممم..همففم.. لملململم...!".. فأقول لها طيب هأحكي لك عملنا إيه من الأول وأنت تصححي لي .." قابلتكم في.. وبعدين... الحيوان.. أبو زلومة... حسين دي إتش إل.. البرج..و... أنا صاحي ياحلا صاحي والله.. معايا أنت بس!"