من نفسي

بكسر النون

الاسم:
الموقع: الدقهلية- القاهرة, Egypt

السبت، مارس 15، 2008

مصطفى عز الدين

مصطفى عز الدين


من أول طلة، عرفت أنه "تبعنا"، البشرة السمراء بلون طمي نيل أسوان، الجسد النحيل القوي كشيمة أهل الصعيد الجواني، نقاوة الروح التي تظهر في خفة الدم "البيور" وصف الأسنان البيضاء رغم سجائر "الكيلوباترا" التي تستعمرها منذ عمر طويل، وكل هذا الذكاء والأسئلة ووجهات النظر التي تطل من العيون.
ولأننا في القاهرة فأنهم يطلقون عليه لقب "أوفيس بوي"، وهي محاولة بليدة من أهالي العاصمة لتخطي حرج تسمية الأشياء باسمها الحقيقي عن طريق لصقها بكلمة إنجليزية حتى تبدو "الافرنجة"، رغم أن الاسم الأجنبي – كما لعلك لاحظت- لا يقل سخافة عن لفظ "فراش" كما نطلق عادة على من يقومون بأعمال النظافة والبوفيه في المصالح والشركات.
عن نفسي لم يكن هو هذا أو ذاك، كان بالنسبة لي "مصطفى" فقط، "مصطفى" الذي يصنع لي "أظبط" كوباية شاي، والذي أتناقش معه في أمور وأحوال الوطن ومحاكمة إبراهيم عيسى وتزوير الانتخابات وحال ناس الصعيد، و أشاكسه كلما خسر الأهلي مباراة – وهو أمر نادر طبعا- وأشاركه حل الكلمات المتقاطعة ثم "السودكو" في مرحلة لاحقة.
كان رقيق الصوت هادئه، على عكس الانطباع السائد عن أهل الصعيد، حتى أني في بدايات المعرفة كنت أظنه يتصنع ذلك، إلى أن اكتشفت أن هذا طبيعة أصيلة فيه، نابعة – فيما يبدو- من الخجل لكونه هاجر بلده "أسوان" تاركا "الطين" وراءه من أجل أن يأتي للقاهرة حتى يعمل- ولامؤاخذة- "أوفيس بوي".
لما سألته يوما عن عمره فوجئت بأنه تخطى الثلاثين بثلاثة أعوام كاملة، ثم تعاظمت الدهشة لما عرفت بأنه غير متزوج "ليه يامصطفى؟!"، يضحك في هدوء ثم يقول بلهجة نوبية محببة " يا أستاذ محمد الجواز مش لينا!"، ويحكي عن أرضهم المحرومين منها بسبب نزاع عليها مع أخرين، وعن التكلفة الكبيرة للزواج، وعن المعيشة الصعبة في القاهرة التي لايكفيها "مرتب وكيل وزارة" على حد تعبيره.
لما كنت أراه جالسا في أحد الأركان مستندا إلى ركبتيه يدخن سيجارته في استمتاع كنت أشعر أنه يعيش في عالم خاص به، عالم رحب بلا ضغينة تجاه أحد رغم قسوة الظروف وبعد الأهل وفوضى القاهرة وأهلها، حتى أني كنت لما أراه متخذا هذه الوضعية التي تشبه أوضاع لاعبي اليوجا كنت أحرص على ألا اقترب منه حتى لا أخدش عليه صفاء اللحظة ، إلا أنه كان فور أن يلمحني عن بعد يهب واقفا وكأني ضابط من مكافحة المخدرات قفشه في قعدة حشيش، ثم كان يقف معتذرا بهمهمات غير مفهومة وكأنه يشعر بأن ذنبا ما سيقع عليه إذا ضبطه أحدهم وهو يسرق لحظات من المتعة مع سيجارة كيلوباترا بريئة.
لما رأيت الفرحة في عينيه يوم أن قطع تذكرة القطار الذي سيعود به إلى أسوان في زيارة قصيرة بعد ثلاثة أشهر من العمل المتواصل، عرفت أنه لن يتحمل القاهرة كثيرا ، ولما جاءني من هناك بكيلو من الكركديه الأسواني الأحمر كدم الغزلان من دون أن أطلب منه ذلك عرفت أن كرمه هذا لا يليق إلا بفلاح مصيره مرتبط بالطين والنيل وشمس الصباح وأبوقردان، وليس بقميص لبني والشاي والقهوة وأقراص الطعمية الذي يشتريها لـ"الأفندية".
لكل هذا لك أن تتوقع شعوري لما جاءني في أحد الأيام مودعا بعيون لامعة سعيدة "كسبنا القضية والأرض رجعت لنا" فأقول له منقبض القلب: "طيب ما تأجروها لحد وخليك هنا"، يضحك ولا يرد تأدبا، فأعاجله بالقول" إحم.. واضح أن الإيجار ده عندنا في بحري بس" وأنا احتضنه شاعرا بدفء عمره آلاف السنوات نتواعد على لقاء يوما ما في أسوان ثم وهو يرحل أسأل نفسي ذلك السؤال الصعب.." ترى.. متي سأكسب أنا القضية؟!".