من نفسي

بكسر النون

الاسم:
الموقع: الدقهلية- القاهرة, Egypt

السبت، أبريل 04، 2009

إنت عمري

إنت عمري


لما اقتربت الساعة من الحادية عشر مساء، وجدتني تلقائيا أحرك مؤشرا الراديو وابحث عنها بكل اهتمام، رغم أن هوايا ليس كلثومي الطابع مطلقا، إلا أنني بعدما -تخطيت الربع قرن وحتة- ضبط نفسي متلبسا بالاستمتاع إلى الست بين يوم وآخر كلما هل صوتها عبر إذاعة الأغاني مساء كل ليلة.
عرفت أم كلثوم بالمزيكا أولا، إذ نمى وعيي الموسيقي- إن كان لدي وعيا أصلا!- في التسعينات على يد عازف الساكس الموهوب الشهير "سمير سرور"، كان الرجلا فنانا محترفا بحق، قدم توزيعا جديدا لمجموعة من أجمل أغنيات عصر الأبيض والأسود، كان فيها "الساكس" هو البطل، في الجزء الرابع من هذه السلسلة قدم ألبوما كاملا وخاصا بأغاني "أم كلثوم"، موسيقى خالصة صافية "بيور"، جعلني رحيقها الفتان أبحث عن الأغنيات الأصل، بعدما سحرتني موسيقى إنت عمري وفات الميعاد وألف ليلة وليلة حتى لو كانت بلمسة عصرية.
في هذه الليلة، كان المذيع يبشرنا بأننا في الخميس الأول من الشهر، ولأننا هكذا فإن إذاعة الأغاني ستكافئنا بحفل نادر للست،أما الحفل فهو ما أطلق عليه "لقاء السحاب" عندما جمع الغنا بين نجوم ذلك الزمان "أم كلثوم" و"محمد عبد الوهاب" وبينهما الشاعر الذي يكتب بمداد من القلب مباشرة "أحمد شفيق كامل"، كان صوت المذيع فيه فخرا لافتا لأنه يقدم لنا الحفل الذي غنت فيه أم كلثوم رائعتها "إنت عمري" لأول مرة يوم 6 فبراير 1964 على مسرح حديقة الأزبكية "هكذا نطقها وهكذا حفظتها دون جهد".
لم يكتف المذيع بذلك، وإنما قال أن مايضفي جمالا فائقا على هذه السهرة الاستثنائية هو أن من يقدم الحفل – قبل 45 عاما- هو الإعلامي الكبير الراحل "جلال معوض"، وعلى من يريد أن يسجل هذا الحفل النادر أن يستعين بشرائط كاسيت تقترب سعتها من الساعتين والثلث!
كنت احاول استيعاب الزمن "ساعتين وثلث"؟ عندما لكزني المذيع بالثانية "وهذا هو عمر الوصلة الثانية التي غنتها السيدة أم كلثوم في هذه الليلة من أصل ثلاث وصلات!".
وجدت نفسي تلقائيا أقارن بين "نفس" الجيل الجديد الغنائي وهو يقدم ألبوما كل عام أو أكثر مجموع دقائقه لايتجاوز الستين أغلب الأحيان، وبين وصلة الست الثانية التي تتجاوز ساعتين من أصل ثلاث وصلات، فلم أعد أعرف هل كان أهل زمان يمتلكون الصحة والبال الرائق والوقت الخاوي أم أننا- أبناء هذا الجيل مقصوف الرقبة- الذين لا"نستطعم" الفن الحقيقي ولا نبتلع سوى الغنا المغطى بالكاتشب والمايونز سريع الهضم؟
ربك والحق، فور أن بدأ التسجيل النادر في الانسياب عبر الأثير، شعرت بأنني انتقلت توا إلى حديقة الأزبكية في سنوات الستينيات البعيدة القريبة رغم أني في هذه اللحظة بالذات كنت أعيش جو القرن الحادي والعشرين وأسير في طريق القاهرة الإسماعيلية الصحراوي في جو ساكن به لمسة برودة محببة، كان صوت "جلال معوض" الوقور العذب العميق كأنه قادم من بئر مياه سلسبيل، يشعرني بأننا في حضرة كشف علمي مثير، أو كأننا نجلس في انتظار رجل دين يأتينا ببشارة تطهرنا من الآثام، وعندما ظهرت الست على المسرح- أحسب أني رأيتها أمامي في هذه اللحظة- تهدج صوته، وانزوى خلف صوت التصفيق الذي يتردد في الأذن وكأنه عزف سيمفوني.. ثم بدأت الأوركسترا في الدندنة بذلك التمهيد الذهبي الشهير لـ"إنت عمري".. تتن..ترن.. تتن..ترن.. ترررن. ..تاتا!
كانت هذه هي المرة الأولى التي تصافح فيه إذن الجماهير تلك الموسيقى الخارقة، وهكذا لم تكد تلك الاستهلالة تنتهي حتى انطلق التصفيق والهتاف والصفافير غير مصدقة أن الحلم المستحيل قد تم فعلا وأن أم كلثوم ستغني على لحن عبد الوهاب.
ستعيد الفرقة الموسيقية عزف ذلك التمهيد مرة واثنتين وثلاثة وأنت- ياللعجب- مستمتع دون أي ذرة إملال، حتى جاءت اللحظة التي غابت فيها الموسيقى واستكانت ووقفت أم كلثوم من كرسيها المقدس لتشدو، لاتسألني كيف رأيتها تقف الآن رغم أني استمتع إلى الراديو على بعد عشرات السنوات، صوت التصفيق الذي استمر لمايقرب من 45 ثانية متصلة بنفس الحدة والقوة والحماس يؤكد ذلك، ستجلس أم كلثوم ثانية وكأنها تتدلل على الجمهور الذي سيجلس بدوره لنعود إلى "..تتن.. ترن.. تتن..ترن..ترررن"!، ثم تقوم مجددا من على مقعدها فيلتزم الجمهور بالصمت هذه المرة تأدبا وشوقا ولهفة فتكافئه الست قائلا بصوتها الذي تعرف جيدا أن مدهون بطمي النيل ومعطر بالتمر حنة "رجعوني عينيك....".. آه.. ياست.. لأيامي اللي فاتوا!

خارج السطور: يوم الثلاثاء القادم 7 أبريل 2009 ينظم المركز الدولي للتنمية الثقافية حفل توقيع ثلاثي يضم كتب "من غلبي" لحسام مصطفى و"بحب السيما" لنانسي حبيب و "الحالة ميم" لصاحب هذه المدونة المسكينة، العنوان لمن سيشرفنا بالحضور أو من سيفضل إرسال بوكيهات الورود أو علب الشوكلاتة الفاخرة أو الاثنين معا- أنت وميزانيتك بقى- هو 17 شارع السد العالي من ميدان فيني الدقي، أقرب محطة مترو محطتي الدقي والأوبرا، والحفل سيبدأ في السادسة مساء إن شاء الله.. في الانتظار.