من نفسي

بكسر النون

الاسم:
الموقع: الدقهلية- القاهرة, Egypt

الأحد، سبتمبر 21، 2008

ضلمة

ضلمة

في أول يوم صرت فيه وحيدا في الشقة بعد عودة الحاج والحاجة إلى "شربين" المعز. وأنا أتابع في شغف المهمة الجديدة التي سيقوم بها "سوبر هنيدي". مستلقيا على السرير المواجه للتليفزيون محاولا هضم وجبة الإفطار الدسمة التي لايزال فيها نفس أمي. قرر التيار الكهربائي أن "يستندل" في وقت غير مناسب على الإطلاق -كما لعلت لاحظت- و.. "انقطع"!
لا أعرف من القائل بأن الخوف شعور طبيعي يجب أن يصيب أشد الرجال شجاعة في اللحظة المناسبة لذلك تماما- باين اللي قال كده هو أنا!-. لكني في هذه اللحظة التي ساد فيها الظلام فجأة الشقة بطولها وعرضها كنت احتضن الخوف شخصيا!
ما زاد الجو شاعرية أن الأطفال العفاريت الذين نزلوا للتو إلى الشارع لممارسة طقوس "الشيطنة" الليلية المعتادة رقعوا بالصوت الحياني في كورال مفزع لحظة انقطاع التيار الذي سحب الحياة من آخر لمبة كانت لاتزال تمارس وظيفتها الحكومية في الشارع، لكنهم- ولاد المحظوظة- سرعان ما هبط لهم والدهم من أعلى مهدئا روعهم وصعد بهم سريعا إلى شقتهم لأجد نفسي اسأل سؤالا وجوديا-لايخل من حقد بشري أصيل- رغم هذا الجو المرعب "طب وأنا فين اللي يقولي ماتخافش ياحبيبي من الضلمة!"
وبعدين؟ الشقة خاوية كجيب موظف يوم 28 في الشهر. هذا يجعلها ناديا مثاليا لكل عفاريت الكون لو أرادت الاحتفال الليلة بعيد ميلاد كبيرهم .ولايوجد أسوأ من ضوء الموبايل الباهت هذا إلا ضوء الشموع المتراقص الذي يصيبك بالعصبي خاصة إذا كنت شجاعا صلد القلب مثلي! لكن ما البدائل؟ أقوم ببطء وكأني أحمل أطنان من الحديد فوق ظهري. بالطبع لابد من حدوث "تزييق" في السرير رغم أنه خشب.. عمرك سمعت عن خشب بيزيق؟! ولايهمني.. تشجع يا أبوحميد.. فين أيام "الأوضة الضلمة".. فاكر.. كنا صغار وقتها- يبدو أن المرء يفقد شجاعته تدريجيا كلما كبر- وكنا ندخل –كل عيال العيلة- إلى الحجرة إياها الموجودة على طرف البيت الكبير المواجهة تماما للغيط الذي يصبح في الليالي التي يغيب عنها القمر أشبه بسجادة كثيفة الشعر يتخفي بداخلها كل الغيلان. وكنا ونحن نبحث عن بعضنا البعض في الظلام نضحك ونكركر من القلب دون ذرة خوف.. وكأن الله يعلمنا في الصغر أننا نستطيع أن نقهر الفزع ذات نفسه كلما كنا "معا".. ربما لهذا صرنا جبناء عندما صرنا فرادى.
أين وضعت الشمع؟ هذا سؤال تبدو إجابته سهلة في وجود النور.معقدة كمسألة فيزياء "معقربة" في قلب الظلام. لكن كل الأمهات المصريات المثاليات تضع شمعة وبجوارها علبة كبريت إضافية فوق الثلاجة. لا أعرف تبريرا منطقيا لذلك لكن هذا فلكور أصيل مفاده ربما توصيل رسالة للأب المرهق العائد من العمل بأن الأكل المثلج سيصبح ساخنا في ثوان!.. ولأني أثق في مثالية والدتي ومصريتها أب عن وجد نجحت أخيرا في إشعال الشمعة الأولى.. فوق الثلاجة طبعا!
للحظات شعرت بأننا ظلمنا صناع السينما الأوائل في مصر عندما كنا نسخر من إضاءتهم لكل "اللوكيشن" بنور الدنيا كلها فور أن يشعل البطل شمعة يتيمة – فوق الثلاجة طبعا!- لأن شمعتي هذه صنعت تأثيرا مماثلا لدرجة أنني ظننت بأنه "هيييييييه النور جه" وأن "فاتن حمامة" قد ترتمي في أحضاني بتأثير "الخضة" لكن هذا لم يحدث طبعا خاصة عندما لم تتغير درجة الإضاءة رغم إشعالي لشمعة ثانية وثالثة!
منذ أيام انقطعت الكهرباء أيضا. لكن الفارق كان كبيرا. كان والداي معي هذه المرة. وكان علي أن أمارس عليهم كل طقوس الشجاعة المستوردة من أسد الغابة.لم ارتبك أو ارتجف للحظة وطمأنتهم بأنه "خير ياجماعة". يبدو المرء دوما في حاجة إلى آخرين حتى يمارس عليهم شجاعته أولعله يستمدها منهم.في كل الأحوال هذا يطمئنهم ويزيد من ثباته. لكني- الآن- وأنا وحيد هكذا كثمرة جوافة ظهرت بالخطأ في شجرة برتقال كيف أصبح شجاعا؟
تأخرت الكهرباء اللعينة بالفعل. لن يفيد الانتظار كثيرا في البلكونة وتأمل النجوم اللامعة- يابختهم الكهرباء عندهم شغالة 24 ساعة!- أتجه إلى المطبخ وأنا أنظر خلفي بين الحين والاخر متحسبا لهجمة من أحدهم- مين مش عارف!- ثم أبدأ - كأي عازب يحترم نفسه- في غسيل الأطباق وأعد في ذات الوقت- حركة دي بقى!- كوبا من الشاي كنت أمنى نفسي باحتساءه على ضوء الشموع في البلكونة متخيلا رومانسية الجو "أشرب الشاي مع الخوف".. والله ينفع اسم قصيدة نثر!عندما حدث السيناريو المرعب!
دوى صوت فرقعة "صاروخ رمضاني" في الشارع.. سقطت الشمعة في الحوض فانقلب المطبخ إلى لون أسود "بيور".. وانطلق الموبايل يتراقص على نغمة "اغتصاب العراق" في فيلم "ليلة البيبي دول"! كل هذا حدث في ذات اللحظة.. طبعا.. ركبت الهوا إلى أعلى مسافة يمكن أن تتخيلها قبل أن ألملم شتات نفسي من جديد وأرد على تليفون خالتي العزيزة التي لم تجد وقتا أكثر شاعرية من هذا حتى تعزمني على الإفطار لديها في اليوم التالي!تسلمي ياخالة!
الآن وأنا أكتب إليكم على بعد 40 كيلو مترا من المنزل حيث مارست حياتي الطبيعية كأي بني آدم يعيش في الظلام واتجهت – في ظلمة الليل والشقة والحياة والمجتمع والناس!- إلى عملي، لا أعرف حينما أعود بعد منتصف الليل بقليل هل انتهت العفاريت من حفلتها وعاد النور يسري في المكان أم أنها- أي العفاريت- قررت أن تستأجر الشقة "إيجار قديم"؟.. دعواتكم.. والله يرحمك ياعم "أديسون"!