من نفسي

بكسر النون

الاسم:
الموقع: الدقهلية- القاهرة, Egypt

الخميس، ديسمبر 20، 2007

الحاج عربي

الحاج "عربي"

حدث ما تنبأ به "ياسر"- رجل الدش- بكسر الدال- لو كنت لاتزال تتذكره- ، وفي ليلة شتوية باردة لطيفة، كنت أتابع "منى الشاذلي" وهي تتحدث عن شيئا ما لا أتذكره الآن، وفجأة- تن تن تن- بدأت الصورة في الاهتزاز والتقطع، ثم خرج الصوت مبتورا به أزيز يشبه تكات الشفرة السرية التي كان يستخدمها رأفت الهجان لمراسلة المخابرات المصرية.
كان لهذا معنى واحد فقط، "فيه حد بيسرق الدش من البلكونة"، وكأي رجل شرقي شجاع مقدام يدافع عن شرفه- أقصد عن دشه- أحضرت "المقشة" سلاح المواطن المصري الوحيد الذي تسمح به أجهزة الأمن، واقتربت بهدوء من البلكونة المغلقة، وأنا افتحها في حذر داعيا الله أن يكون الحرامي عيل صغير سيفلسع فور أن يراني ولا يكون ضخم الجثة عريض المنكبين قد يستسهل اختطافي أنا شخصيا مقارنة بخلع طبق الاستقبال من قاعدته الاسمنتية.
وبطريقة سينمائية فتحت "شيش" البكونة في عنف وأنا أهتف بصوت رددته الصحراء كزئير أسد هصور يعاني من الإمساك "هع.. مين هناك"، فلا يجيب أحد، اقترب من الطبق، وأمسك به في قوة وانتصار، وأتلفت يمينا ويسار وأنظر إلى أعلى وإلى أسفل فلا أجد حتى برصا ضالا، ثم يأتيني صوت شفرة "رأفت الهجان" متصاعدا من التليفزيون تأكيدا على أن هناك رسالة مهمة ينبغي استقبالها، وكأي مواطن "فتك"- بكسر الفاء- أحاول ضبط الإرسال من خلال توجيه الطبق يمينا ويسارا حتى – الحمد لله- انقطع الصوت وضاعت الصورة وأصبحت شاشة التليفزيون سوداء خرساء، فأعود إلى سريري مطمئن البال هادئ السريرة.

***

جاءني "الباشمهندس أحمد"- كما أصر هو أن أناديه هكذا- على صهوة دراجة بخارية صينية الصنع، وخلفه تابعه "أنور" الذي يمسك له بحقيبة فيها "عدة الشغل"، وهم يصعدون إلى الشقة بدا الاثنان- وهما يرتديان الجواكيت الجلد السوداء- أشبه بفريق "المهمة مستحيلة"، طلبا مني في عجالة فتح التليفزيون والريسيفر وكذا البلكونة طبعا، ثم طمأناني بأنه "خير إن شاء الله"، وهم يضبطان الأمور سألت عن "ياسر" فعرفت انه تزوج "وبطل الشغلانة!"، ثم سألت في إلحاح عن سبب العطل فأجاب الباشمهندس أحمد في بساطة:
"عادي الهوا حرك الطبق"
أعاود السؤال في عدم فهم : وهو كل شوية الهوا يحرك الطبق، الدش هيبوظ؟
رد في تلقائية شديدة: "طبعا.. أمال إحنا ناكل عيش منين؟!"
أعجبني منطقه، فأنخرست، لهف هو وتابعه عشرين جنيها، وظللت لمدة يومين أتابع الصورة كأي مواطن صالح لديه دش يعمل بفعالية، حتى عادت إشارات رأفت الهجان السرية، فتكرر السيناريو بحذافيره، من دون مقشة هذه المرة، لأني أدركت أن السر في الهوا، وأن الأمر لن يحتاج أكثر من زقة لفوق أو زقة لتحت مع ضبط للشمال ولليمين حتى.. تمام كده.. الصورة راحت!

***

المنطق كان يقول بأني علي أن أذهب إلى هؤلاء الحرامية الذين استولوا على عشرين جنيها في مقابل إصلاح الدش ليومين فقط، إلا أني على سبيل إغاظتهم- ماتسألنيش إيه العلاقة!- قررت أن أذهب إلى غيرهم، مجنبا نفسي ارتكاب جريمة قتل عمد لو قالا لي أن سبب العطل هذه المرة أيضا هو "الهوا هوايا"، لأن هذا يعني ضرورة أن أضع الدش في الصالة محيطا إياه بصندوق من الخرسانة المسلحة حماية له من أي تيار هوا يصيبه بنزلة برد.
كنت أبحث عن المحلات المتخصصة في المنطقة، عندما لمحت يافطة الحاج عربي بجواري، "هاهو راجل سُكرة يبيع ويركب ويصلح الدش.. طب إيه اللي رامني ع المُر"، يستقبلني في ترحاب، ثم ينادي بعلو الصوت على محمد، الذي لا يكون سوى صبي صغير لم يتجاوز العشرين من عمره، يأتينا من الشقة التي تعلو المحل وعيونه حمراء بفعل نوم استيقظ منه للتو، اصطحبه إلى الشقة ليكشف على المأسوف على شبابه "الدش"، وبعد محاولات "تفعيص" متعددة يعلن الخبر اليقين: "العيب في "الريسيفر".. أصله نوع واقع قوي.. ده مش مكتوب عليه حتى صنع في الصين.. يومين بس ويكون عندك وآخر تمام".

***

بعد أسبوعين بالتمام والكمال، نجحت أخيرا في أن أجد المحل مفتوحا، استقبلني الحاج "عربي" بترحابه المعتاد، ونحن في انتظار "محمد"، أبادره بالسؤال عن أسعار الشقق في المنطقة فينطلق هو كالرصاصة
"الأسعار هنا بقت نار.. عندك مثلا الشقة دي.. المتر فيها مقرب على الألف ونص، بس أصحابها مسيحيين ومش هيبيعوها.. غريبة قوي رغم أننا جنب المجمع الإسلامي، بس الشارع أغلبه مسيحيين، تعرف.. المسيحيين دول جدعان قوي.. يعني أنا أساسا من الدرب الأحمر وكان جيرانا هناك كلهم مسيحيين عمرنا ما اتخانقنا مع بعض.. وبعدين عمر ما يطلع منهم الغلط.. أقول لك على مثال.. السجن مثلا.. كام واحد بيكون فيه مسلم وكام واحد مسيحي؟ ده حتى لما القسيس بيجي يوزع على المساجين المسيحيين حاجات مش بيلاقي منهم كتير فبيوزع على المساجين المسلمين.. بلاش.. عمرك شفت تاجر مخدرات مسيحي؟ أهو أنا قدامك أهو.. اشتريت مخدرات ياما من وأنا صغير لغاية ماكبرت عمري ما قابلت تاجر مخدرات مسيحي!.. سيبك.. أصلا مصر دي بتاعتهم وإحنا اللي جاين عليهم.. عشان كده مثلا عمرك ما تلاقي واحد سعودي ولا بحريني دمه خفيف زي المصريين .. وده رغم أننا مسلمين زي بعض ليه؟ عشان إحنا واخدين خفة الدم من المسيحيين..آه أمال"
يأتينا محمد بعيونه التي لاتزال حمراء من أثار نوم لا ينتهي، ونحن في طريقنا إلى الشقة للتخلص من رسائل رأفت الهجان، وبعد أن سلمت على "الحاج" عربي، أسأل ابنه : "هو باباك حج في مكة ولا في القدس يا أبوحميد.. وهو مسلم ولا مسيحي بالمناسبة.. ماترد يامحمد"!