من نفسي

بكسر النون

الاسم:
الموقع: الدقهلية- القاهرة, Egypt

الجمعة، مارس 23، 2007

في شقة مصر الجديدة.. اسمع لحن الصورة

في شقة مصر الجديدة..اسمع لحن الصورة

شابة في أواخر العشرينات تحمل في نظرة عيونها ومشيتها الرقيقة وفستانها البسيط أحلام جيل بأكمله يبحث عن حب حقيقي، تأتي إلى القاهرة لأول مرة قادمة من المنيا في رحلة تابعة للمدرسة التي تعمل فيها مدرسة للموسيقى، فتقرر أن تستفيد من هذه الفرصة التي لا تتكرر من أجل أن تقابل أستاذتها التي علمتها حب الموسيقى والحياة في الصغر.. تذهب إلى شقتها في مصر الجديدة لتجد المفاجأة.. المُدرسة اختفت وتركت خلفها الخطابات التي كانت ترسلها لها تلميذتها النجيبة ومعها جهاز بيانو عتيق ومجموعة من صور الماضي.. والساكن الجديد شاب يعمل في البورصة ويتصف بالعملية والواقعية.. كيف إذن سيكون التلاقي بينهما؟!
هذه هي الحدوتة الأساسية لفيلم "في شقة مصر الجديدة".. وهي تحتاج إلى كاتب سيناريو يتعامل بنعومة معها، ومخرج يمتلك أدواته بحيث تخرج الصورة متناغمة مع الحكي، وممثلين قادرين على إقناع المشاهد بأنهم أبطال الحدوتة الحقيقيين.. الجميل أن كل هذا تحقق في " في شقة مصر الجديدة".. بل إنه تحقق بأعلى قدر يمكن أن تتخيله وتتمناه وتعيش معه أحلى وأجمل ساعتين على شريط سينما تنساب مشاهده وكأنها لحن موسيقي عذب.
هذا هو الفيلم الثالث لـ"وسام سليمان" كاتبة السيناريو -وإحدى أهم بطلات الفيلم- بعد تجربتين مميزيتن "أحلى الأوقات" 2004 و"بنات وسط البلد" 2006، وإذا كان هذان الفيلمان بهما نَفَس وروح نسائية واضحان حتى إنهما من الأفلام الحديثة القليلة التي كانت البطولة فيها لممثلات وليس لممثلين، فأن الأمر لا يختلف كثيرا في "في شقة مصر الجديدة" فالبطولة هنا أيضا نسائية "غادة عادل" إلا أن الحس الإنساني هنا أعلى وأكثر عمقا للدرجة التي تجعله يمس النساء والرجال في وقت واحد وبنفس الدرجة والتأثير دون تمييز، رغم أن المدقق سيكتشف أن هناك ثمة ملامح أو تيمات مشتركة بين فيلم "وسام سليمان" الأول "أحلى الأوقات" و"في شقة مصر الجديدة".. هناك الخطابات التي لا يزال الأبطال يصرون على استخدامها رغم كل هذا التطور التكنولوجي الحادث.. وهناك ذلك الشخص المجهول الذي قد لا يظهر في أحداث الفيلم أو يظهر في مشاهده الأخيرة ومع ذلك فهو المحرك الحقيقي للأحداث.
نجحت "سليمان" في التخطيط للسيناريو بذكاء واضح.. وصنعت لبطلة الفيلم "نجوى"/ "غادة عادل" عدة مواقف قهرية قاهرية تليق بالعاصمة تماما! -"معاكسات وسخافات تصل لحد الصفع باليد- حالة ولادة لسيدة أخرى في الحمام- بيع سلسلتها الذهبية- التهرب من دفع أجرة الأتوبيس- التخلف عن اللحاق بالقطار- الإقامة في بيت مغتربات"- وهي ذات المواقف التي تجعل وجودها في القاهرة منطقيا، وفي نفس الوقت تؤجج بداخلها الرغبة في البحث عن مدرستها "الأستاذة تهاني" التي يزداد غموض اختفائها يوما بعد آخر والتي ستكتشف أنها لا تعبر -فحسب- عن كونها مدرسة علمتها الموسيقى وقت أن كانت طالبة في مدرسة الراهبات بالمنيا، وإنما هي تمثل المعادل الموضوعي لـ"الحب الحقيقي" الذي يجب عليها أن تبحث عنه وتتطلع إليه وتنتظره حتى ولو طال هذا لسنوات.
وعبر عدة مشاهد متناغمة ومغلفة بخفة دم دون تكلف.. تتصاعد العلاقة بين "نجوى" و "يحيى/خالد أبو النجا" ساكن شقة مصر الجديدة الذي يعاني هو الآخر من آثار تجربة حب قديمة فاشلة نعرف ملامحها في سرعة وبطريقة مبتكرة -حديث إلى برنامج إذاعي-.. حتى تكون الذروة في محطة مصر -التي كانت حاضرة وبقوة طوال أحداث الفيلم- وبشكل غير مباشر أو تقليدي ولكنه مغلف بالكثير من الدلالات التي تشير إلى أن النهاية ستكون سعيدة.. وكل مشاهد على قدر خياله.
الفيلم يقدم "غادة عادل" في أبهى صورها وأكثرها توهجا -حتى إن هذا يظهر في أفيش الفيلم الرائع الذي ظهرت فيه -ياللغرابة- بظهرها- هذا رغم أنها ارتدت طوال الأحداث ثلاثة فساتين فقط، وظهرت في معظم مشاهده دون أن تضع ماكياجا تقريبا، فهي بسيطة رقيقة خجولة وباحثة عن الحب الحقيقي بجدية في ذات الوقت، والفيلم يعد وثيقة ميلادها السينمائية الثانية -وربما الأكثر قوة- بعد دورها في ملاكي إسكندرية "2005".
"خالد أبو النجا" يقدم دورا مميزا بحرفية وتلقائية في ذات الوقت، يتفوق فيه على دوره في فيلم "لعبة الحب" -الذي قد تتشابه قصته مع قصة "في مصر الجديدة" في فكرة البحث عن حب حقيقي-، وهو بهذا يؤكد أنه أحد قلائل الممثلين الحاليين القادرين على القيام بكل الأدوار رغم تنوعها ما بين رومانسي واجتماعي ونفسي وكوميدي.. وأكشن إن أراد.
أما مفاجأة الفيلم بحق فهو الفنان الكبير "يوسف داود" الذي لم يكن لأحد مطلقا أن يتخيله في دور عجوز يعيش سعيدا على وهج قصة حب، حتى ولو كانت فاشلة لكنها كانت تجربة الحب الأصدق في حياته، "داود" هنا يجسد دوره في عمق ملحوظ وينطق العبارات نابضة بإحساس صادق، ومخرج الفيلم "محمد خان" باختياره لـ"داود" للقيام بهذا الدور يوجه صفعة لكل المخرجين الآخرين الذين اختصروا قدارت هذا الممثل الكبير في القيام بأدوار كوميدية تافهة في أفلام أكثر تفاهة.
قدمت "عايدة رياض" و"أحمد راتب" دوريهما بتفوق واضح رغم أن مساحة ظهورهما لم تكن كبيرة بما يتسق مع أحداث الفيلم، ذات الأمر الذي ينطبق على "مروة حسين" التي يبدو أنها ستحصر نفسها في أدوار الفتاة المشتاقة دوما إلى حضن رجل –ولا ضل حيطة- بأي طريقة كانت!
موسيقى "تامر كروان" بدت -من رقتها- وكأنها تنساب خارج شاشة العرض لتستقر في القلب، تصوير "نانسي عبد الفتاح" التي تتولي مهمة مدير التصوير لأول مرة ينبئ بموهبة حقيقية ستنتفح أمامها كل الأبواب، مونتاج "دينا فاروق" تجنب تماما القطع الحاد والنقلات المفاجئة فجاء ناعما متناغما مع الفيلم ككل.
ويبقى في النهاية "محمد خان" ذلك المخرج الأجمل، والأكثر قدرة على العطاء و(المعافرة) من أجل تقديم سينما إنسانية حقيقية من بين كل زملائه الذين ظهروا في الثمانينيات ثم توقفوا لسبب أو لآخر، فهو في "في شقة مصر الجديدة" يبدو أشبه بقائد الأوركسترا الذي يقود فرقة موسيقية تعزف لحنا عبقريا.. الفارق الكبير هنا أن اللحن هذه المرة معزوف.. بالصورة


نُشر أولا في بص وطل

السبت، مارس 17، 2007

فرخة الوزارة

فرخة الوزارة
لأسباب مختلفة كنت - في أوقات كثيرة- أتصنع دور "اللي مش واخد باله" عندما أجد واحدا من رجال الشرطة يشير لي في كمين أو على مطب من أجل أن يستقل معي السيارة إلى مكان أخر في الجوار أو في البعد.. ربما لأن الوقت يكون عادة ليل "والدنيا قلق اليومين دول وماحدش ضامن حد فمبالك في اللي بيركب معاك العربية بالليل!" وربما لأني أسأل نفسي "طب اشمعنى يعني أمين الشرطة هو اللي يركب معايا وباقي الناس لأ"، وربما ثالثة لأني دمي محروق من تلك المرة التي وقف فيه أمين شرطة بعرض الطريق ملوحا بيده وكأن سيارتي المسكينة تحمل 1000 طن من الهيروين وذلك قبل أن يميل علي مبتسما ابتسامة لزجة قائلا:"معلش ممكن توصل الباشا- مشيرا لزميل له- لغاية ميت غمر بس".. فأوصله طبعا وأنا في منتهى السعادة والحبور.
هذه المرة كان الأمر مختلفا.. الجو عصر.. ومن يشير لي هما صبيان يحملان بعض الكتب ولا يزيد عمرهما بأي حال من الأحوال عن 14 أو 15 سنة .. صحيح أنهما كان يقفان في منحنى بحيث يعني توقفي لهما أن تلطشنا من الخلف أي سيارة أخرى مسرعة.. لكني وجدت نفسي اضغط على الفرامل تلقائيا وأضيء مفاتيح الانتظار قبل أن أتوقف بعيدا عنهم بقليل، وقد فهما الإشارة وجدتهما يجريان بسرعة نحو السيارة قبل أن يقول لي أصغرهم بأدب ملحوظ "كفر عوض".. أشرت له بأن تفضل ثم فتحت الباب الخلفي لأخيه الذي جلس صامتا تماما طوال الطريق الذي لم يستغرق سوى خمس دقائق على الأكثر.
حاولت أن أفتح مجالا للحوار" جايين من مدرسة".. "أيوة صناعي.. أنا في أولة وأخويا في تانية".. "بس على كده أنتم فترة مسائية!".. في لهجة محايدة وسريعة وكأنه يرد على هذا السؤال العبقري كل يوم "أيوة أصل المدرسة متقسمة.. تالتة كلها الصبح وإحنا مسائي" .. ثم صمت.. شعرت بحرج حقيقي.. تأملته بطرف عيني وجدته ذو ملامح ريفية واضحة.. ملامح محفور فيها الشقاء مع الحزن جنب إلى جنب العزة و الرجولة.. يبدو حتى هذا واضحا في جلسته على الكرسي فاردا لظهره ناظرا إلى الأمام بعين حادة.. نمر بجوار ضريح مجهول فأحاول فك شفرات الصمت من جديد "ضريح مين ده؟" ..تأتي الإجابة الجديدة "تلاقيه ولي من الأولياء"!. وأفطن إلى أن اليوم الدراسي الكئيب والتنقل والسفر والترحال والعمل في الأرض أو غيرها قبل المدرسة وبعدها كل هذا جعله ميالا للصمت غير مرحب بالكلام مع شخص ثرثار يقود عربية 128 حمراء!
ولما نزلا في محطتهما شاكرين.. لمحتها تقف على جانب الطريق.. سيدة مصرية أصيلة فيها ملامح أمي وأمك تحمل على رأسها "حلة" ضخمة من الألمونيوم وتمسك في يديها الاثنتين جركنين ممتلئين باللبن فيما يبدو... وجدت نفسي بتلقائية أميل عليها دون حتى أن تنطق بحرف لأسألها " رايحة فين ياحاجة؟" تنطق اسم البلدة التي لا تبعد كثيرا فأفتح لها الباب لتجلس بجواري وتضع الحلة أسفل قدميها وبجوارها الجركنين..ثم أجدها وقبل أن تغلق الباب تمد يدها بربع جنيه كانا منكمشا في قبضتها.. ابتسم قائلا "خلاص يا حاجة.. وبعدين الأجرة خمسين قرش!".. فتضحك وتدعي لي دعوات كفيلة بأن تهرب كل أبالسة جنهم من طريقى.. أسألها في فضول سخيف " سمنة اللي في الحلة دي!".. تفتح الحلة على الفور وتريني أجمل قطع سمن بلدي يمكن أن تراها في حياتك قبل أن تقول "ماتغلاش عليك والله.. خدهم وأنا هأجيب لنفسي بعدين!".. أشكرها قبل أن تحكي لي كيف أن الغش وصل للسمن البلدي وأن بائعة خدعتها ذات مرة وباعت لها سمن ثم اكتشفت أنها ليست سوى دهون عجول عليها طبقة خفيفة من السمن البلدي!.."بس يوميها كانت هأجيب لها ابني أمين الشرطة.. لولا أنها رجعت لي الفلوس".. "أنت عندك أولاد قد إيه ياحاجة؟".." 7".. "ياه".. "وكلهم متعلمين والحمد لله.. واحد دكتور في الجامعة والتاني.. والتالت..و..و. أما البنت بقى فاتجوزت وسافرت استراليا".. مندهشا "استراليا؟!".. تجيب بابتسامة دافئة "أه من ييجي 15 سنة.. اتجوزت واحد جارنا وسافر هناك وبقى له بيزنس كبير".." بيزنس؟!".. "أه.. أنا سافرت استراليا على فكرة.. وقعدت هناك أربع شهور".. اسألها وأنا أخشى الإجابة "واستراليا أحسن ولا مصر؟!" .. تقول في سرعة "مصر أحسن عشان الآذان.. هنا بتسمع القرآن وصوت الآذان في كل وقت.. والناس لسه بتخاف على بعضيها أما هناك كنا بنصلي كده من غير آذان ،وكل واحد ماشي في حاله وما يعرفش حاجة عن التاني.. ".. تصمت للحظة ثم تكمل "بس هناك البني آدم له كرامة.. وماحدش يقدر يقرب له من غير قانون.. أما في مصر وفي الكل الدول العربية- أصل رحت حجيت في السعودية-.. الواحد مالهوش أي كرامة..ده "فرخة الوزارة" اللي بتوزعها الجمعية ليها كرامة عن البني آدم في مصر".
أنظر لها مندهشا ومتأملا.. قبل أن تطلب مني التوقف لأنها وصلت إلى قريتها.. أتابعها وهي تنزل حلة السمنة وجراكين اللبن من السيارة في حرص مرددة كلمات شكر وأدعية تطيب لها جراح سنين.. ثم أدوس بنزين في قوة وأنا أسأل نفسي
"هي فرخة الوزارة لسه بتتباع أصلا؟!"